وذلك أن رحم الغيب تولّد منه الروح المحمّدي ، ثم تسلسلت منه الأرواح ، ورحم الشهادة ؛ وهو رحم حواء تولّد منه أولا آدم نسلا بعد نسل ، فكما كان الروح المحمّدي مبدأ لسلسلة الأرواح ؛ فكذا الرحم الحوائي كان مبدأ لسلسلة الأجسام ، فكان كل من الرحمين من الرحمة الخاصة الرحمانية ، ولو لا ذلك ما كان ، ولم يظهر آثار الأسماء والصفات في عالم الإمكان.
ولهذا السرّ عظّم الله الرحم ، وأمر بالصلة أو بالصلة يتصل الفيض والجود ، فإنها ليست للرحم حقيقة ؛ بل للرحمن الذي اشتق الرحم من ذلك الاسم ، فأشار بالرزق
__________________
ـ وقال تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)[التوبة : ١٢٨] فالرحمانية لها الوجود الإيجادي ، ولها الصبغة ، والرحيم لها الصبغة والنعت والصفة ، والرحمن لإيجاد الأعيان ، والرحيم لتعين المراتب انتهى».
والرحمن واسطة بين الله وبين الرحيم ، ويوجد منها ما هو من خصائص الذات من اللطف والإيجاد والقهر والإفناء فخص بالذات ، ويوجد من الرحيم اللطف والإيجاد والإبقاء دون القهر والإفناء ؛ لأن الله تعالى أخبر عن صفة الإفناء ، والإيجاد ، والإثبات بالرحمن حيث قال في كتابه العزيز : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥](الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ)[الفرقان : ٢٦].
وقال أيضا : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ)[الفرقان : ٥٩].
وقد صرح به الشيخ الجليل قدّس سره العزيز وحكى «أنه لما خلق الله (الرحمة) تعلقت (بالرحمن) ، فقال : مه قالت : لن أبرح».
فهذه إشارة أشارها المشير ، وسر أسره اللطيف الخبير فكل من الاسمين الشريفين فيهما رحمة متعلقة بالثقلين وغيرهما في هذه الدار بالعموم ، وفي الدارين بالخصوص ، فصار حرف الأول (راء) الرحمة ، والثاني حائها ، والثالث ميمها في الرحمن دون الرحيم فإن فيه صار رابعا ؛ لأنه ميم الحمد كما مرّ ولإحاطتها وجدت الميم فيهما ، وتوسطت في الرحمن ؛ لأنها من عالم المثال المتوسط ، و (الراء) مجرد معرفة بنفسها لا تحتاج إلى التعريف ، و (الألف) حقيقة فيها من حيث المنطوق ، ومنفصلة عنها ، فكل حرف من حيث المنطوق توجد فيها الألف عينا إن كان منطوقها ثنائيا ، وإن كان ثلاثيا فقد تكون عينا ، وقد تكون غيبا ، وعلى تقدير أن تكون عينا قد تكون متصلة ، وقد تكون منفصلة.