مجالس متعددة من غير تكثر في ذواتهم ، ويدخلون البيت من غير الباب والكوة ، ولا يدرك حقيقة هذا الأمر إلا من ولج ملكوت السموات ، والله الهادي.
١٠ ـ في الحديث الصحيح : «من بنى لله مسجدا» (١) :
أفاد الكلام الإخلاص ، وأخرج ما بني رياء وسمعة ، وأخرج المسجد معابد الكفار ، ثم أكدّ معنى الكلام بقوله :
«يبتغى به وجه الله» (٢) ؛ فإنه يراد به الإخلاص ؛ إذ وجه الله ذاته ورضاؤه عبر به عن الذات ؛ لأنها أشرف الأعضاء ، وعن الرضا ؛ لأن أثر الرضا ؛ إنما يظهر في الوجه ، وفيه إشارة إلى أن ما بني بطريق الرياء ، ولأهل البدع والأهواء في حكم الكنائس ؛ إذ هو عمل محبوط رأسا ؛ كعمل الكفار.
«بنى الله له مثله في الجنة» أي في الجنة الصورية الحسية في الآخرة ، وأعاد له إشارة إلى المكافآت ، والجزاء الوفاق إذ لا معنا لبناء المسجد في الجنة ، ودلّ المثلية على مراتب الإخلاص (٣) ، فإن كان الإخلاص في مرتبة القلب التي هي مرتبة العشرات ؛
__________________
(١) رواه الترمذي (٢ / ١٣٤) ، وابن ماجه (١ / ٢٤٣).
(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (٢ / ٨٤) ، وابن كثير في تفسيره (٣ / ٢٩٣).
(٣) قال الشرقاوي : قيل لسهل بن عبد الله رضي الله عنه : أي شيء أشد على النفس؟ فقال : الإخلاص ، وكم أجهد في إسقاط الرياء عن قلبي ، فكأنه ينبت فيه على لون آخر.
قال أبو طالب رضي الله عنه : والإخلاص عند المخلصين : إخراج الخلق من معاملة الخالق ، وأول الخلق النفس.
وعند المحبّين : ألا يعمل عملا لأجل النفس ، وإلا يدخل عليه مطالعة العوض ، أو تشوف إلى حظ طبع.
وعند الموحدين : خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال ، وترك السكون والاستراحة بهم في الأحوال انتهى.
فإذا حمل العبد في نفسه وألزمها التواضع والمذلّة ، واستمرّ على ذلك حتى صار له خلقا وحيلة بحيث لا يجد لضعته ألما ولا لمذلته طعما زكت نفسه واستنار بنور الإخلاص قلبه ؛ ونال من ربه أعلا درجات الخصوصية ، وحصل أوفى حظ ونصيب من المحبة الحقيقية ، فهذا لا يكره الذم من الخلق ؛ لوجود النقص في نفسه ولا يحب المدح منهم ؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه ، فصارت الذلة والضعة صفة لازمة له ، لزوم العرض للجوهر ، فإن كان مع الله تعالى بالذل طلبه واستحلاه ، كما يطلب المتكبر العز ويستحليه إذا وجده ، فإن فارق ذلك الذل ساعة لغيّر قلبه لفراق حاله ، كما أن