فله بمقابلة مسجد واحد عشرة بيوت جنانية لا يقادر قدرها ؛ لأنها من الجواهر ، وبيوت الدنيا من الأحجار ونحوها.
وإن كان في مرتبة الروح التي هي مرتبة المئات ؛ فله بمقابلة مسجد واحد مائة بيت من البيوت الفردوسية لا يكننه كنهها ؛ لأنها من الدرر واللآلئ الصافية ، وإن كان في مرتبة السرّ التي هي مرتبة الألوف ؛ فله بمقابلة مسجد واحد ألف بيت من البيوت العدنية المبنية على الأنوار ، وإن كان فوق ما ذكر ؛ فله أجر بغير حساب على أن من بنى مسجدا في الدنيا فإنما يبنيه لإقامة الصلاة ، التي هي محلّ المناجاة والمكاشفة
__________________
ـ المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه ؛ لأن ذلك عيش ، فإذا لا بدّ للمريد إسقاط جاهه وإخمال ذكره ، وفراره عن موضع اشتهاره وتعاطيه أمورا مباحة تسقطه من أعين الناس ، كقصة السائح الذي سمع به ملك زمانه فجاء إليه ، فلما علم بذلك السائح استدعى بقلا وجعل يأكله أكلا عنيفا بمرأى من الملك ، فلما رآه على تلك الحالة استحقره واستصغره فانصرف عنه ذا ماله.
وقد بالغ بعضهم في مداواة علة الجاه الذي علق في القلوب ، حتى استعملوا في ذلك أشياء منكرة في ظاهر الشرع ، ورأوا فعل ذلك جائزا لهم ولغيرهم ، وذلك مثل قصة الرجل الذي دخل الحمام ولبس من فاخر ثياب الناس ، بحيث تظهر ومشي بذلك متمهلا بحيث يرى ويظن بذلك السرقة ، فلما رآه الناس أخذوه وصفعوه ، ورموا الثياب عنه واشتهر عندهم بالسرقة ، حتى كان يعرف عندهم بلص الحمام ، فحينئذ وجد قلبه.
ومثل ما يروى عن أبي يزيد رضي الله عنه في قصة الشاهد ، الذي أمره بحلق رأسه ومخلاته مغلقة في عنقه أيضا ، وإعطائه من ذلك لمن يصفعه من الصبيان ، وطوافه على تلك الحال في المحافل والمحاضر ذكر ذلك أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وغيره.
وإذا جاز لمن غصّ بلقمة حلال أن يسيغها بالجرعة من الخمر إذا لم يجد غيره ، مع أن تحريمه مقطوع به ولا يفوته بترك الجرعة إلا حياة فانية ، فلأن يجوز مثل هذا إذا تعين عليه أولى ؛ إذ يفوته بترك المنكر في ظاهر الشرع الحياة الباقية والقرب من الله تعالى ، فإذا التزم العبد هذه الطريقة من الرياضات ماتت نفسه ، وحيا قلبه وقرب من حضرة ربه ، واجتنى ثمرة غرسه على غاية الكمال والتمام.
وتلك الثمرة أخلاق الإيمان ، التي تكيفت بها نفسه وصارت كصفاته ذاتية له ، وهي نتيجة الحكمة التي أنبتها الله في قلوب عباده المتواضعين.
قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)[البقرة : ٢٦٩].