زعم بعض أهل الظاهر من أن السبق في الدخول لا يستلزّم رفع الدرجات على من تأخّر ؛ بل قد يكون بعض من تأخّر ؛ كالذين أنفقوا مالهم في وجوه الخيرات أرفع درجة ممن سبقه في الدخول هذا كلامه ؛ وهو جهل بالحقائق ، ومقتضيات الآثار.
فإن النبي صلىاللهعليهوسلم : فضّل الفقير المسبّح على الغني المتصدّق ؛ فالغني : إن خرج عن ماله بالكلية قبل موته ؛ فهو من الفقراء ، وإلا فمتأخّر عنهم ، وهذا إنما بالنسبة إلى من لم يكن نبيا ، فأمّا من كان نبيا ؛ كسليمان عليهالسلام فتأخّره عن الأنبياء لا يقتضي تأخّره عن الأولياء ؛ لأن مقام النبوة أرفع من مقام الأولياء ، نعم يجوز أن يكون فقراء المهاجرين فوق الكل ؛ تعظيما لمتبوعهم ، وإلحاقا لهم بدرجته في جنة عدن على ما يقتضيه الحقائق.
هذا فكما أن المؤمن الفقير أرفع درجة من المؤمن الغني ؛ فكذا الكافر الفقير أخفّ عذابا من الكافر الغني ، فدركة الكافر الفقير فوق دركة الكافر الغني ؛ فيكون دركة الكافر الغني أنزل من دركة الكافر الفقير.
ولا شك أن الإنزال دركة أشدّ عذابا دلّ عليه قوله تعالى :
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].
كما أن الأعلى درجة أقوى نعيما ، فثبت أن أهل النعيم متفاوتون في درجاتهم بحسب أعمالهم وأحوالهم ، وكذا أهل الجحيم فليس من كفر فقط مساويا في الدركة بمن كفر ، وقتل ، وزنى ، وشرب ، وفعل من المحرّمات ما لم يفعله الأول.
وعلى هذا جاء به الشرع ، ولا يخدشه ما في المذهب الحنفي : من أن الكفار غير مخاطبين بالفروع ، فإن ذلك بالنسبة إلى الأوامر.
وما ذكرنا بالنسبة إلى المناهي على أن أهل الحقائق قائلون : بأن الكفار مخاطبون بالفروع على أن القول بكون الكفار غير مخاطبين بالفروع قول بعض الحنفية لا كلهم على ما تقرر في محلّه.
ويجوز أن يقال وجه التحديد في الحديث بالأربعين : إن الفقر الحقيقي إنما يتم في الأربعين ؛ وهو الخروج عن الوجود بالكلية ، والخلو عما سوى الله تعالى بالمدة ، ومدته بالنسبة إلى هذه الأمة المرحومة ، وإن كانت أربعين سنة من سنين الدنيا ؛