الصفاء على كل حال ، وأين هو من غير الكامل المكمّل؟ وإذا عرفت هذا ؛ فلا تقنع بقليل الكشف واليقين ، فإنه قد يكون مسلوبا ، كما وقع لكثير من السّلّاك حيث رجعوا قهقري ، واحتجبوا عن الحق احتجابا كثيفا ؛ وهو احتجاب الرحمة بالرأي لا الرحمة.
٤٦ ـ في صحيح البخاري : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الإيمان ليأرز إلى أهل المدينة ما تأرز الحيّة إلى جحرها» (١) :
الأروز كالدخول بتقديم المهملة ، الانقباض ، والتّجمع ، والانضمام ، والجحر بالضم ، وتقديم الجيم ؛ كل شيء يحتفره الهوام والسباع لأنفسها ؛ والمراد هنا ما يعبّر عنه بالفارسية : سوراخ.
اعلم أن المدينة هو : النبي صلىاللهعليهوسلم كما قال : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (٢) ، وإيمان الناس ينضم إليه ، والوفى أواخر أوقاتهم ، وحين احتضارهم ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩].
وقد شبّه الإيمان الاضطراري بدخول الحيّة في جحرها دخولها فيه لا يخلو عن سبب ضروري ، وشدة ، وضيق ، فالنفس الإنسانية أشدّ من الحيّة في الضرر ، والاعوجاج ، وإنما تستقيم وقت المعاينة للأحوال الأخروية ، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها.
فالمراد بالإيمان : إيمان النفس ، ودخولها في مقام القلب الذي لا يقتضى إلا بالتصديق ؛ فإنه مدينة العلم في الحقيقة ؛ ولذا ورد : «استفت قلبك» (٣) ، وهو المظهر للاسم العليم ؛ كالمغني.
وفيه إشارة أخرى وهي : إن عليّا كرّم الله وجهه لمّا كان باب مدينة العلم ، والباب يعدّ من المدينة ، ومن البيت ؛ كانت الطرق المتفرّقة الحقة ، موصّلة إليه ، فليس طريق من الطرق الحقة إلا وسلوكها إلى ما كان عليه المرتضى من الاعتقاد ، والعمل ، والحقيقة.
__________________
(١) رواه البخاري (٢ / ٦٦٣) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٣٨).
(٢) رواه الحاكم في المستدرك (٣ / ١٣٧) ، والديلمي في الفردوس (١ / ٤٤).
(٣) تقدم تخريجه.