ولمّا كان العذاب على نوعين : عذاب بنار وحرور ، وعذاب برد وزمهرير ، أشار صلىاللهعليهوسلم بالصبوح إلى أن الصدقة تدفع عن المتصدّق عذاب الزمهرير وبالغبوق إلى أنها تدفع عنه عذاب الحرور ، فينجو المتصدّق من كلا العذابين بحسب جسمانيته ، ويبقى له التخلّص عن العذاب الروحاني ؛ فإنه عذاب أيضا ؛ بل هو أشدّ من الجسماني ؛ لتعلّقه بالروح الذي هو ألطف الأشياء في الوجود الإنساني ، وذلك بالكلمة الطيبة ؛ فإنها صدقة أيضا ، ولها تعلّق بمرتبة الروح ، فإن الروح يستريح بما يسمعه من الكلمة الطيبة ، ويتخلّص عن تعب الغمّ والكدورة ، فلا بد للعاقل من تحصيل كلتا الصدقتين.
وإنما خصّ منحة اللبن بالذكر ؛ لأن اللبن أول ما يغتدي به بدن الإنسان ، ويتربّى ، وله زيادة اختصاص بالفطرة الأصلية ، وإلا فجميع المأكولات والمشروبات مما يتربّى به الوجود الظاهرة من قبيل الصدقة والجسمانية ، ومنه يعلم قرب العرب في الصدر الأول بالفطرة ، إذ كان أغلب مطعوماتهم اللبن ، ثم آل الأمر من تنوعات الأغذية إلى التنزّلات ؛ فصارت حال الفطرة بعيدة بعد ما كانت قريبة.
وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : ٢١] ، وذلك إنما وقع في القرآن ؛ فإنه ينبئ عن النسيان ، وهو إنما يعرض بكثرة العوارض والحجب على وجه الفطرة ، ومعظمها المطعومات المختلفة ، والمباحات المتنوعة لاسيما المحرّمات ، والمشتبهات ، فأنّى ينجر الإنسان من ذلك ؛ فوجب عليه إصلاح ظاهر الوجود بالشريعة ، وباطنه بالطريقة إلى أن يكشف الله عماه ، ويبصره هداه ؛ فيستسعد بعلم الفطرة ، وبعلم الكسب ، وبعلم الشكر ، وبعلم الذوق والحقيقة ، وإلى هذه العلوم الإشارة بالأنهار الأربعة المذكورة في القرآن الكريم.
ثم إن الغدو والرواح لمّا كانا مشتملين على الصدقة ؛ سرى سرّهما إلى جميع الأوقات ، فإصلاح الأول والآخر إصلاح لما بينهما أيضا ، كما أن إصلاح البدن والروح ، وإن شئت قلت : القلب إصلاح لجميع الأعضاء والقوى ، وبذلك ينجو الهيكل الإنساني بجميع أجزائه وأعضائه وقواه ، ومن تفطّن لحكم العموم ، ولم يقصر عمله على الخصوص ، والله شهيد على ما تعملون ، وهو العليم الخبير ، ومنه الفيض العزيز إلى كلّ من الصغير والكبير.