البراءة قطعيّا أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل. سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجماليّة على سبيل اليقين يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا ، كما لا يخفى. سلّمنا ذلك ، ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه. وإن أراد الحكم الظنّي ـ سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا (٧١٤) للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة ـ فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار التي لم يثبت حجّيتها بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه (٢١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه : أنّ (٧١٥) حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان حكم قطعي لا اختصاص له بحال دون حال ، فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ، ولم يقع
______________________________________________________
٧١٤. بأن يقال بكون الشكّ في التكليف مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة السابقة مفيدا للظنّ بالبراءة ، لأنّ التكليف لو كان لبيّنه الشارع ، لقبحه بلا بيان ، فتأمّل.
٧١٥. محصّل الجواب تصريحا وتلويحا يرجع إلى وجوه :
أحدها : أنّه يستفاد من نفيه إفادة أصل البراءة للقطع أوّلا ، ثمّ تسليمه ذلك قبل ورود الشرع ومنعه بعده ثانيا ، ومنعه ذلك في مقابل الخبر الصحيح ثالثا ، أنّ مقتضى أصالة البراءة هو نفي الحكم الواقعي. فيرد عليه حينئذ أنّ مقتضاها ليس نفي الحكم الواقعي لا قطعا ولا ظنّا ، بل مقتضاها حكم ظاهري قطعي ناش من استقلال العقل بقبح التكليف بلا بيان ، ولا خلاف لأحد في ذلك ، لأنّ قول الأخباريّين بوجوب الاحتياط إنّما هو بزعم كون أخبار الاحتياط بيانا إجماليّا واردة على أخبار البراءة ، ومثبتة لحكم ظاهري من قبل الشارع ، لا لأجل منع القبح المذكور. والمحقّق القمّي رحمهالله أيضا إنّما استند في حجّية البراءة في المقام إلى حكم العقل ، دون الأخبار حتّى يدّعى ظنّيتها ، ولا إلى الإجماع كي يمنع في المقام ، مع ما عرفت من تحقّقه في المقام. والمصنّف رحمهالله وإن لم يصرّح بالإيراد المذكور ، إلّا