حزن وحزن ، فحزنه عند شهود الجنازة كان أقوى من حزنه في غيره.
فإن قلت : على ما يحزن ويبكي وهو من أهل الملكوت؟ فلا يزال يشهد الأرواح ، قلت : قد صحّ عند أهل الله ان الحزن من المقامات العالية ، فهو أقوى في قلوب الأنبياء مما في قلوب الأولياء.
كما أن في قلوب الأولياء أشدّ مما في قلوبهم من دونهم من الصلحاء ، ولكل موطن من مواطن الدّارين حكم مختصّ به.
ألا ترى أن جبريل عليهالسلام بكى على فراقه صلىاللهعليهوسلم حين انتقاله إلى الآخرة مع أنه لا يزال يطوف حوله في عالم البرزخ ، وان الإنسان الكامل ، وإن كان ممن يحب لقاء الله ؛ لكن قد يكون بحيث يكره الموت بحسب الطبع البشري لا بحسب الحقيقة ، فإن الموت تحفة المؤمن ، وإن ريحه له كريح قميص يوسف ليعقوب ـ عليهماالسلام ـ.
والله تعالى يكره كراهته عبده له ، وإن كان لا بد له من ذلك ، كما ورد في الحديث ، والمحقق لا ينظر إلى صورة الموت ؛ بل يكاشف حين شهد الميت ، ولا يتحقق إلا بتجلّي الأسماء الجلالية ؛ كالقهّار ، والقدير ، والمريد ، والمميت ، ونحو ذلك ، ولا ريب ان المحققين قائمون في مقام الهيبة ، والعظمة ، والجلال ؛ لقوة شهودهم ، وإطلاعهم على الحقائق ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) [الكهف : ١٨].
فإن مجرّد مطالعة أصحاب الكهف من غير كشف الحقائق والسرائر ؛ لا يقتضي الامتلاء بالرعب.
ألا ترى أن العوام أثبت عند رؤية الأهوال من الخواص ؛ لأنهم مستغرقون في الحسّ ، ليس لهم إطلاع على المعنى ، ومن ثم كان صلىاللهعليهوسلم يقوم للجنازة ، ويأمر بالقيام عند شهودها ، فإنه قيام لرب العالمين ؛ لظهور سطوته وبطشه من تجلّي الاسم القهّار ، والمميت فلا يقوم من يقوم إلا للمميت دون الميت ، ففي القيام له تهويل للموت ، وتعظيم لرب العالمين ؛ فإنه فيه سر القيامة الكبرى.