الخيال ، فمن لا قلب له ؛ لا وحي ، ولا إلهام له على وجه يعتدّ به.
ونعم ما قال بعض الأكابر : إن المعارف الإلهية إنما تحصل من طريق العمل الصالح ، والسلوك ، والتقوى ، وكثير من المغرورين الذين لا صحبة لهم مع أهل التسليك وقعوا في الدعوى ، وكذّبهم أفعالهم الفاسدة ، وأعمالهم الكاسدة ، فالله الله ، و «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله (١)» وهي الفراسة الحقيقة الكاشفة عن السرائر لا الفراسة الطبيعية الكاشفة عن الظواهر.
وقد قال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩].
وهذا اليوم : يوم الميعاد بالنظر القاصر ، ويوم المعاش بالنظر الكامل.
إن قيمة العارفين دائمة فما ينكشف يوم المعاد لأهل الظواهر ؛ فقد كشف الله يوم المعاش لأهل البواطن فسيّرهم سير على الدوام ، وإن لم يقف عليه العوام ، والله عليم بذات الصدور ، وكذا من ارتضى من رسول ، ووارث الرسول ، وذلك بالتعريف الإلهي دلّ عليه قوله : «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» (٢) : أي من اتصف بالغيرية ، وأمّا من تخلّص عن شوائب الغيرية ؛ فالله لا يخفى سرّه عنه.
في الجامع الصغير : كان صلىاللهعليهوسلم إذا شهد جنازة ؛ رؤيت عليه كآبة ، وأكثر حديث الكآبة الحزن ، وقلب كئيب حزين ؛ والمراد : باكيا.
وحديث النفس : طول التفكّر ، ومن أماراته : إطراق الرأس غالبا.
فإن قلت : إنه صلىاللهعليهوسلم كان دائم الأحزان ، طويل الفكر ، فما معنى رؤية الكآبة عليه وقت شهود الجنازة؟ قلت : لا شك أنه كان متهلّل الوجه عند خروجه إلى أصحابه ، فكان لا يرى عليه أثر الحزن إلا عند موجب قوي ، كشهود الجنازة على أنه فرق بين
__________________
(١) رواه الترمذي (٣١٢٧) ، والطبراني في المعجم الكبير (٨ / ١٢١) ، وأبو نعيم في الحلية (٤ / ٩٤) ، (٦ / ١١٨) ، وأبو سعد الماليني الهروي في الأربعين كما في مجموع الأربعين للنبهاني (ص ٣٠٥) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ٢٦٨) ، وحسنه ، وكذلك ذكره الحافظ ابن عراق في تنزيه الشريعة (٢ / ٣٠٥) ، وسكت عليه الحافظ في الفتح (١٢ / ٤٠٥) ، والحديث من شواهده ومتابعاته تبين أنه لا يقل عن درجة الحسن لغيره.
(٢) ذكره الجرجاني في التعريفات (١ / ٢٩٥).