والحاصل أن النبي صلىاللهعليهوسلم سار ليلة المعراج بالعلم والقدم جميعا ، فمن أراد السير الروحاني ، والمعراج المعنوي ؛ فلا بد له من القدم أيضا ، فمن لا قدم له ؛ لا سير له إلا في مرتبة الخيال ، لا اعتداد به عند أهل السير القلبي ؛ لأنه يصل إليه الممكور وغيره بخلاف السير القلبي ، فإن الوحي ، والإلهام الصحيح إنما ينزل على القلب لا على
__________________
ـ الذاتيّة ذكره في القانون في بحث المزاج ، بل ولا الذاتيات ؛ لأن معرفتها فرع لمعرفة الذات ، فمن لم يعرف الذات كيف يعرف النسب المخصوصة لتلك الذات المخصوصة ، فلا شفاء في الفكر أصلا ، فلهذا قيل : العقل عقال ، والانسلاخ عنه مطالب الرجال.
ولكن إدراك العقل على قسمين غير ذاتي وهو الذي ذكرته آنفا ، فإنه يدرك بالآلة التي هي المفكرة ، وبالآلة التي هي الحسن ، فالخيال يقلد فيما يعطيه ، والفكر ينظر في الخيال فيحدّ الأمور مفردات ، فيجب أن ينشئ منها صورة يحفظها العقل ، فينسب بعض المفردات إلى بعض ، فقد يخطئ في نسبة الأمر على ما هو عليه ، وقد يصيب فيحكم على ذلك الحد فيخطئ ويصيب ، وهذا طريق الفكر الذي هو حرام على المرتدين خاصة ، فافهم.
ليسوا من أهل الفكر والنظر ، وإنما الفكر لإناث الرجال وهم الفلاسفة ، وأهل الأرصاد ، فإن قيل :
هذا الحكم الذي : ليت تحكم على أحكام العقل أيضا من أحكام النظر والفكر ؛ لأنه ليس من مدركات الحس ولا من البديهيّات فلم يبق إلا النظر ، فكيف تثبت به مدّعاك.
قلنا : ليس كما تقول ؛ بل هو من الإعلام الإلهي والإلهام الربّاني ، فتتلقاه النفس الناطقة من ربها كشفا وذوقا من الوجه الخاص ، فإذا صورت المسألة بعد الكشف يكون هذا مصداقه.
فإن قيل : إن الله تعالى أمر بالتفكّر ، ومدح التفكّر ، قال تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)[آل عمران : ١٩١] في مقام المدح.
وقال تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)[الغاشية : ١٧].
وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف : ١٨٥].
وقال : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)[الفرقان : ٤٥] ، وأمثالها من الآيات كثيرة التي تدل على ثناء الاستدلال ، واستعمال الفكر.
قلنا : ما ذهبنا إلى أن الفكر ليس له نتيجة ، بل وما خلقه الله سدى ، ولكن أهل الله لما علموا أن الفكر يخطئ ويصيب ، وأنه غاية علم الرسوم ، وأهل الاعتبار من الصالحين ، وأنه يعطي المناسبات بين الأشياء تركوه لأهله ، واتقوا منه أن يكون حالا لهم ؛ ليلحقوا بالذين فطروا على العلم بالله ، والموحي إليهم ابتداء من الله وعناية بهم كالملائكة والأنبياء ، والأولياء عليهمالسلام هكذا ذكره رضي الله عنه في الباب الرابع والأربعين ومائة ، والخامس والأربعين ومائة.
بل قال رضي الله عنه في مواقع النجوم : «إن العلم الكسبي يحصل للنبي والولي من غير فكر واكتساب ، بل يعطي الدليل والمدلول ابتداء من غير نظر وفكر» فافهم. وانظر : مجمع البحرين (ص ٦٠) بتحقيقنا.