__________________
ـ فالمرور عنه أجلّ لأنه يقدح فيما ذكرناه من الحيطة الكماليّة والاستيعاب الذي ظهر به الحق تعالى من حيث هذه الصورة العامة الوجوديّة التّامة التي هي الميزان الأتم ، والمظهر الأكمل الأشمل الأعم ، فافهم.
فما ليس كذلك من العلوم والعلماء والمعلومات فليس بالعلم الحقيقي الذي نحن نصدر بيانه إلا بنسبة ضعيفة بعيدة ، ولا يعدّ صاحبها عند أكابر المحققّين عالما ، فإن صاحب العلم الحقيقي هو الذي يدرك حقائق الأشياء كما هي ، ومن سواه إنما يسمّى بمعنى أنه عارف باصطلاح بعض الناس واعتقاداتهم ، أو صور المفهومات من أذواقهم أو ظنونهم ، ومشخصات صور أذهانهم ، ونتائج تخيلاتهم ونحو ذلك من أعراض العلم ولوازمه وأحكامه في القوابل ، بل باعتبار كمال إطلاق هذا العلم الحقيقي ، وتوجهه ، وسعة دائرة مرتبته ، وانسلاخه من قيود الأحكام ؛ لغلبة صفة أحديّة الجمع بعظم إدراكه ، ومعرفته ، وعلمه ، وإحاطته بالأشياء التي علمها من هذا الوجه ، بهذا الطريق حكم الحق تعالى في علمه لأحمديّة الأصل ، والمرتبة ، ووحدة المآخذ.
فافهم أنه تعالى أشار إليه بقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ)[البقرة : ٢٥٥] ، ولكن يبقى هناك فروق أخرى بين العلمين ، فمثل هذا الذوق يسمّى علما حقّا ، ونورا صدقا ، فإنه كاشف سرّ ، ورافع كل شكّ وريب ، فافهم هذا الباب فإنه لبّ المعارف الإلهية.
ثم لتعلم قلة حذوي الاستدلال ، ونهاية وصول العقل ، والوهم ، والخيال ، وبيانه أن الله تعالى لما خلق النفس الناطقة ، وخلق فيها قوة معنويّة نسبة معقولة وهي عين ما اتّصفت بها في الخارج كالأسماء الإلهية في الإلهيات ، فكانت من القوى قوة تسمّى مفكرة ، إذا استعملها الوهم ، وميّز الحق تعالى لهذاه النفس الناطقة الحضرات الثلاثة ، وولاها عليها وهي حضرة المحسوسات ، وحضرة المعاني الصّرفة المجرّدة عن المواد ، وإن لم تظهر بعضها في المواد ، وحضرة الخيال ، وهي حضرة متوسطة بين طرفي الحس والمعنى ، وهي خزانة الجباية التي تجيبها ، وجعل فيها : أي في حضرة الخيال قوة مصوّرة تحت حكم العقل والوهم ، فيتصرّف فيها العقل بأمر والوهم بأمر آخر ، ويقوى في هذه النشأة سلطان الوهم على سلطان العقل كما هو محسوس لأكثر الناس ؛ وذلك لأنه لم يجعل في قوة أن تدرك من المجرّدات كالصفات التنزيهيّة إلا العقل ، ومع هذا لم يكن في قوة العقل إذا خاض في الإدراك أن يدركها إلا بتصور ذلك الأمر المجرّد ، وهذا التصوّر من حكم الوهم ولا بدّ ، وذلك لأن التصور ليس غير الصورة التي لا يحكم بها إلا الوهم ، فصار فيما هو به عالم بالنظر والفكر ، أسير الوهم مقيّدا بلا شكّ ، فله الحكم والسلطنة على العقل من حيث التصور ، فافهم.
ووجه آخر في ضعف العقل وقصوره ، وقلة جدواه في الإدراك ، وهو أن القوة الفكريّة لو كانت صفة من صفات الروح وخاصة من خواصه ، أدركت صفة مثلها ، ومن حيث أن القوى الروحانيّة عند المحققين رضي الله عنهم لا تغاير الروح فصحّ أن نسلم للناظر أنه عرف حقيقة ما ، ولكن من الوجه الذي يرتبط بتلك الصفة التي هي منتهى نظره ومعرفته.
وقد اعترف أستاذ أهل النظر ومقتداهم عند عثوره على هذا السرّ (١) إمّا بالذوق وإمّا خلف حجاب القوة الفكريّة بصحة الفطريّة ، أنه ليس في قوة البشر الوقوف على حقائق الأشياء وعوارضها