العلم حيث يبلغ يحب أن يبلغه العلم ، كما قال تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] ؛ يعنى : حيث وصل إليه العلم ؛ وصل العمل ؛ وهو صفة الكمّل ؛ لأنهم يطيرون على جناحين ، فمن استهان بالعمل ، وقصّر فيه ؛ فلا اعتداد بعلمه ، ولو تجاوز العوالم كلها (١).
__________________
(١) واعلموا جعلنا الله وإيّاكم من أهل الكشف في الوجود ، وجمع لنا بين الطرفين المعقول والمشهود أن العالم كان من كان على ثلاث مراتب عالم علمه زائد عليه إما موهوب ، وإما مكتسب ، ولهذه المسألة حكم في الإلهيات ، ولها حكم في الكون في بيانه إشاعة بشاعة ، وفي محاققته كشف ما لا ينبغي كشفه.
ولكن سأبرز نبذا من تلك الأسرار إلى إخواني لأنس الغائلة مع تحقيق الفائدة بين التصريح والإلغاز والإخفاف والإغلاق والله المستعان.
فاعلم أن العالم الذي علمه عين ذاته في الإلهيات ظاهر ، فإن علمه تعالى عين ذاته تعالى ، وأما في الكون حين شهود وحدة العالم والمعلوم ، والعلم يشهد ذلك فافهم.
وأمّا العلم الموهوب ، والمكتسب بالنسبة إلى الكون فظاهر الدرك هين الخطب.
قال الله تعالى في عبد من عباده : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)[الكهف : ٦٥]. وهو علم الإقرار.
وأما العلم الكسبي كالعلوم التي هي نتائج الأفكار ، والأعمال المشروعة التي تورث العلم.
قال الله سبحانه وتعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة : ٢٨٢].
وأما هذان العلمان في الإلهيات فصعبا التصور ؛ لأنه تعالى منزّه عن ذلك ، ولكن قال الله تعالى عن نفسه حتى نعلم ، فأنزل نفسه في هذه الأخبار منزلة من يستفيد بذلك علما وهو سبحانه وتعالى العالم بما كان وما يكون.
وقولنا : إن العلم تابع المعلوم وبحسبه ، فأعطي المعلوم من نفسه للعالم به العلم على ما هو عليه ، فكل عطاء بلا عوض فهو هبة ، فافهم ، فإن المقام ليس مقام المحاققة ، فتأدب.
قال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)[طه : ١١٤].
اعلم ثانيا أن المعلوم كان ما كان حقّا كان أو خلقا ما لا يعلم بغيره أصلا وليس له دليل قاطع عليه سوى نفسه ، والبصر له الشهود ، والعقل له القبول ، وهذا هو التحقيق الأتم ، والذوق الصحيح الأشمل الأعم ، وغير هذا الذوق تمويه وتمريج.
فمن تطلّب معرفة الأشياء كما هي بالدلائل الخارجية الغريبة التي ليست عين المطلوب ، فمن المحال أن يحصل ذلك ، بل استسمن الورم ، ونفخ النار بلا ضرم ولا تظفر يداه إلا بالخيبة ، فلهذا نصّ أهل الحق رضي الله عنهم ، وأهل العقول السليمة على أن الشيء لا يدرك بما يغايره في الحقيقة ، ولا يؤثر