تسبيح الأشياء ، وإن كان مع الأشياء في الظاهر ، فالأشياء تشاهد المحجوب ، وتسمع تسبيحه ، وتستأنس به ، وهو غافل عن الأشياء وتسابيحها ؛ ولذا كان أضلّ من الأنعام ؛ لأنها وجميع الأشياء على صراط مستقيم في سلوكها بخلافه ؛ فإنه على تقدير الاهتداء إلى الشريعة ، ضال عن الحقيقة ، ومما قرر يعرف سرّ قوله صلىاللهعليهوسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، ثم أبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه» (١) يعنى : إنه قبل كونه يهوديا ، أو نصرانيا ، أو مجوسيا ، أو نحو ذلك ؛ كان على الفطرة بالفعل ؛ وهي الجبلة التي جبله الله عليها في أول إيجاده بحيث لو تركه على تلك الفطرة من غير اعتراض العوارض ؛ كان من شأنه التحلّي بالإيمان ، وسائر الكمالات الإنسانية (٢).
وأمّا بعد كونه يهوديا أو نحوه ؛ فقد أفسد تلك الفطرة بالفعل ، وبقى الإيمان ونحوه في القوة ، وبتلك القوة صحّ تكليفه بالإيمان ، وسائر الأحكام ، إذ لو لا ذلك ؛ لكان التكليف عبثا ، ومنه يعرف سرّ قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) [التحريم : ٦].
فإنه لو لا العصيان من شأنهم بالقوة ؛ لما أخبره الله عنهم بعدم العصيان ومدحهم به ؛ إذ لا يمدح المرء بالممتنع ، كما إذا قيل : فلان لا يأكل الحجر ، والميت لا يعصي الله ، ومعنى إمكان العصيان في حقهم : إنه لو لا الامتناع بالغير ؛ وهي العصمة ؛ لصدر عنهم العصيان كما من عصاة البشر ؛ لكن لا يصدر عنهم ذلك ؛ لحصول العصمة ، ولكونهم طبعوا من النور ، وهي لا يقتضي الظلمة.
__________________
(١) رواه البخاري (١ / ٤٦٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٨).
(٢) قال الشيخ ابن سبعين : ولا بد من الرجل المطلوب بالفطرة الثانية ، فإذا عزمت على لقاء الرجال فاذكر الله ربهم في نفسك ، ثم لا تسأل على غيره ، فأول شيء تراه رجاله ، ثم ملائكته ، ثم جواهر الفضائل بالقصد الثاني ، واطلب مدركات النوم في اليقظة ، والعلم دون النظر ، والقدرة بغير عضوها ، وأول الوقت يقوم به إلى الله فما يكون فقط ، ولكل وقت صلوات ، وفي عقبهما ما عينه الشارع صلىاللهعليهوسلم فقط ، إلا إنه يبالغ في التكرار والترتيب إلا إن جاء ما يرد عن ذلك ما هو ألزم.