وفي سورة المطففين
قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] لا يقتضي الحجاب مطلقا ، فإنه يقيّد بيوم القيامة ، فقد ينكشف عنهم عماهم ، وإن كان ذلك دون انكشاف بصائر أهل النعيم ؛ لأن محلّ أهل النعيم ؛ وهو الجنة ، وكذا أبدانهم لطيف قابل لكل نور ذاتي ، ونعيم صفاتي.
وأمّا محلّ أهل الجحيم ؛ وهو النار ، وكذا أجسامهم ، فكثيف ليس بمقابل لذلك ، فليس لهم نعيم صفاتي أصلا من المطعم ، والمشرب ، والمنكح ونحوها.
وأمّا النعيم الذاتي فبقدر تصفية ذاتهم وصفاتهم ؛ وإنما : قلنا النعيم الذاتي من طريق المشاكلة ، وإلا فلا نعيم هناك أصلا ؛ لأنه عالم الفناء عن الحسّ ، وليس عنده ذوق ، وبرد وسلام فاعرفه ، واجتهد أن تكون من الذين ابيضّت وجوههم في جميع العوالم ، فإن النور الدائم لا يلحقه الظلمة.
واحذر أن تكون من الذين اسودّت وجوههم في كل المواطن ، فإن الظلمة الدائمة لا يلحقها النور ، فالحبشي لا يكون أبيض بالصابون من حيث عينه الخارجي ، وكذا الرومي لا يكون أسود بالقار من حيث جسده الصوري.
وأمّا القلب فأبيض وأسود من غير نظر إلى اللون الخارجي.
وقدّم الله الذين اسودّت وجوههم ؛ لأنهم جلاليون ذاتيون ، وأخّر الذين ابيضّت وجوههم ؛ لأنهم جماليون صفاتيون ؛ ولذا كان لهم خطرا ، وزمن الرؤية لكون بعّدهم بعدا صفاتيا متوسطا.
والأحدية الذاتية قبل الواحدية الصفاتية في مرتبة التجلّي.
وقولنا : صفاتيون لا ينافي كونهم ذاتيين أيضا ، فكونهم ذاتيين يظهر في مقام الكثيب ، وكونهم صفاتيين يظهر في باقي المقامات على ما يعرفه أهل التجليّات ، فأهل قاب قوسين بعد العود من معراج ، أو أدنى أفضل ممن لم يكن وعودا ، ولم يكن له عروج ، جعلنا الله ، وإياكم منوّرين بنور ذاته وصفاته.