وفي سورة الزخرف
قال الله سبحانه وتعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) [الزخرف : ٥٤].
يعني : إن فرعون وجد قومه خفيفا ؛ ولذا مالوا إليه بالإطاعة ؛ لأن الخفيف إلى الخفيف يميل ، ومال الخفيف إلى النار ، كما قال : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٨ ، ٩].
ولا شك أن خفة الموازين من قلة الأعمال ، وهي من خفة القلب المائل إلى الهوى ، وفيه إشارتان :
الأولى : إن القلب إذا كان خفيفا ؛ فالقوي أيضا كذلك ؛ لأنها تابعة له كما أن الرعايا تابعة للسلطان ، كما قيل : الناس على دين ملوكهم ، وثقله ، ومتانته ، إنما هو من خوف الله تعالى ، فإن الخائف من الله لا يميل إلى المنكرات ؛ بل يثبت عند ما عيّن له من الشرائع ، وبقدر الخوف والعمل بمقتضاه ، يعرف مقادير الناس ، ومراتبهم في التقوى.
والثانية : إن الملوك لا بد لهم من الرزانة ، والوقار ، والحياء في الصورة بلا تقليد ، وتلوين ، ورياء ، فإن ذلك مما يدلّ على ما في قلوبهم من المعاني والحقائق ، وقد طلب بعض الأولياء من الله تعالى أن يلقي في قلوب الناس هيبته في حقه ؛ لكون ذلك أقرب لقبول ما عنده من الحق ؛ فكأنه طلب أن يلقى ذلك في قلبه ، فإنه إذا كانت حقائق الصفات والأحوال في باطن الإنسان ؛ فظاهره يكون أهول وأهيب.
ولذا ترى ملوك الزمان وأمراءه يتكلّفون في الأوضاع ، ويرون من أنفسهم ما ليس في قلوبهم ، ومن ثم لا يعدّهم الناس في جملة المراجيح الرزان ؛ بل يسخرون بهم في خلواتهم ، والمتحققون المتشيّخون ، فما اشترى العارفون ذلك منهم بفلس ؛ لفرقهم بين الجيد والردىء ، والطيب والخبيث.
فإن الأقوال والأعمال تنادي على المراتب مطلقا ، وقد استخفّوا بعض الناس من أخفاء الأحلام ، فوضعوا على رءوسهم التيجان ، وألبسوهم الخرق والمرقّعات ، فما جاء مصداقهم كلهم إلا قوله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥] أي : قوالبهم الظلمانية في حال حياتهم والقباب المضروبة عليهم بعد