في سورة يس
قال الله سبحانه : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤] ، خصّ الثالث بالذكر ، واكتفى ولم يقل أيضا برابع وخامس ، فإن للإنسان ثلاث مراتب :
مرتبة الحس ، ومرتبة الخيال ، ومرتبة العقل ؛ فكل من الرسل الثلاثة قائم على مرتبة من تلك المراتب.
فالأول : يدعوا إلى الله تعالى في المرتبة الأولى ؛ لأن الحسّ أول الباب ، والغالب على الإنسان قصر نظره عليه ، فلا بد من تحويله عنه في أول الأمر ؛ ليدخل فيما وراءه من المرتبتين.
والثاني : يدعوا إليه تعالى في مرتبة الخيال ؛ يعني يجتهد في تحويل المدعو عن التقيّد بتلك المرتبة ، وإن الخيال يدعو الإنسان إلى أمور موهومة لا حقائق لها ؛ وهي مرتبة الشعور لا العلم الحقيقي.
والثالث : يدعو إليه تعالى في مرتبة العقل ؛ فإن العقل ؛ كالعقال يعقّل المرء عن الحركة إلى إدراك الحقائق ، كما أن العقال يعقّل البعير عن الحركة إلى الوصول إلى الحسّيات ، ولذا هو عقل متعلّق بالمعاش لا عقل قدسي متعلّق بالمعاد ؛ ولذا ذمّ الله الكافرين بأنهم لا يعقلون مع أنهم عقلاء ، إذ لو كان لهم عقل قدسي لتنزّهوا عن ألواث الشرك والمعاصي الحاصل عن متابعة الخيال ، والحسّ.
فمن تخلّص عن التقيّد بهذه القيود الثلاثة بدعوات ثلاث من القلب ، والروح ، والسرّ ؛ دخل في عالم الإيمان والإيقان ؛ بل في عالم الشهود والإحسان ، وبما قررنا من السرّ الخفي ؛ يظهر وجه التثليث في نحو الدعاء ، والنفخ والنفث ؛ فعليك بالعمل ، فإن التعزيز إنما هو في التثليث ، والأمر التكويني يدور عليه ، ويرجع كل أمر إليه.
في آخر سورة يس : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٨٣].
الملكوت هو (١) : الملك العظيم على ما يقتضيه الزيادة التركيبية ؛ كالعظموت
__________________
(١) للعلماء في تفسير الملك والملكوت عبارات حاصلها أن الملك هو : التصرف في الأمور ، وفي تحقيقه