وإن كانت أبدية لكنها ليست بأزلية ، كما أن الأجسام ليست بأزلية ولا أبدية.
وأبدية أجسام الكمّل إنما هي من سريان بركات نفوسهم القدسية ؛ فهي في حكم الأرواح ، ثم إن قوله تعالى : لم يلد ولم يولد مرتبة فوق مراتب جميع التعينات ؛ فإن الله تعالى : (غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩] في مرتبة ذاته ، ولمّا كان لنبينا صلىاللهعليهوسلم مرتبتان : مرتبة التهييم ؛ لأن العقل الكل من عدد الأرواح المهيمة.
وهذه المرتبة لا تقتضي الولادة ، وإليها الإشارة بعائشة الصديقة رضي الله عنها ؛ فإنها بمنزلة النفس المطمئنة القدسية الراضية المرضية الصافية للنبي صلىاللهعليهوسلم ؛ ولذا كان حبّه لها أشدّ من حبّ غيرها إذ لم تلد أصلا ، والحبّ لذّة روحانية ، وإنما تصفو في حال الوصل التام الذي هو الفناء المطلق ؛ وهو حال أبي يزيد البسطامي (١) ،
__________________
(١) ذكره الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء وترجمه فأحسن ، وقال : ومنهم التائه الوحيد القائم الفريد البسطامي أبو يزيد تاه فغاب ، وهام فآب ، غاب عن المحدود وآب إلى موجد المحسوسات والمعلومات ، فارق الخلق ووافق فأيد بإخلاء السر وأمد باستيلاء الذي إشاراته فانية ، وعباراته كامنة لعارفيها صائنة ، ولمنكريها فاتنة.
اسمه طيفور بن عيسى بن شروشان وكان جده مجوسيا فأسلم وكان سبب إسلامه على ما ذكره شيخ المشايخ أبو عبد الله محمد بن علي الداستاني البسطامي قدس الله روحه أنه كان يخالط شروشان ولد إبراهيم الذي ورد بسطام في أول الإسلام فلام إبراهيم ولده وأنكر عليه صحبة شروشان ، وقال له : رجل مجوسي تصاحبه؟ فقال لوالده : هو رجل مرضي الخصال لا يرد السؤال عن السؤال سخي وفي وإنما أحبه لذلك ، فقال له والده : قل له : إن أبي يجيئك ضيفا ، فأخبره فقال : نعم إن فعل فعلي الهدية والكرامة ، فلما حضر إبراهيم وأحضر شروشان الطعام. قال له : لا آكله حتى تعطيني مرادي وتقضي حاجتي. قال : وما ذاك؟. قال : أن تسلم. قال : أفعل وكرامة ، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده رسوله ، فكان هذا سبب إسلامه. وقد كثر اسم طيفور في قبيلته وقومه في يومه وغير يومه ، وفي الأجانب من كل جانب كانوا يسمون باسمه ويكنون بكنيته تبركا واستسعادا ، ولكن هو ذلك الطيفور الذي هو نور على نور ، ولا زال المشايخ المتقدمون في عصره يزورونه ويتبركون بدعائه وهو عندهم من أجل العباد والزهاد وأهل المعرفة بالله. قد فاق أهل عصره بالورع والاجتهاد ودوام الذكر لله تعالى حتى بال الدم من خشية الله تعالى.
قال الشيخ أبو عبد الرحمن السّلمي رحمهالله : مات أبو زيد عن ثلاث وسبعين سنة ، وهو من قدماء مشايخ القوم له كلام حسن في المعاملات ، ويحكى عنه في الشطح أشياء منها مالا يصح ويكون مقولا عليه يرجع إلى أحوال سنية وفراسة حادة ورياضة لأصحابه حسنة. مات سنة إحدى وستين