قضى الله عليه من السفر ؛ الحركة إلى بلدة الأسكوب من البلاد الرومية ، ثم بعد سبع سنين ابتليت بالهجرة إلى جانب بلدة برونية ، ثم بعد سبع سنين ابتليت بالسفر القبريسي ، ثم بعد سبع سنين ابتليت بالغزو ، ثم الحج ، وموت الأولاد في البين ، ومقاساة شدائد المعارك ، وفي طريق الحج حتى انسلخت عن جميع ما بدا من الكتب الجليلة ، والأموال النفيسة ، وسلّمت الروح إلى الله تعالى حتى كان ، ثم بعد سبع سنين وقعت الحركة إلى جانب مسقط الرأس ؛ لزيارة قبر الأبوين ، ثم بعد سبع سنين وقع سفر الحج الثاني ، ثم بعد سبع سنين أمرت من الجانب الإلهي بالهجرة ببرسه إلى الشام ، فانسلخت عن جميع المتعلّقات ، ووقع ذلك في التاسعة والعشرين بعد المائة بعد الألف.
فهذه السنون تزيد على الأربعين ، ثم الله تعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، وكل ذلك كان بإشارة من الله تعالى لا بالاختيار من جانبي ، فإن الحركة الاختيارية نفسانية لا تنتج شيئا ، فالعاقبة الحميدة ما يعقبها الأمر الإلهي لا غير.
وأمّا البلايا الأخر فيما بين هذه الأسفار ولا تعدّ ولا تحصى ؛ لكثرتها ، وقد ورد في الحديث : «ما ابتلي أحد من الأنبياء مثل ما ابتليت به» (١).
ففي الابتلاء جلاء القلوب ، وصقالتها ، وجعلها متّسعة ؛ لتجلّي الحضرة الإلهية ، فإن التجليّات منوطة بغير الملائم غالبا ؛ ولذا كان أشدّ البلاء على الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، ثم إن فوق هذا الابتلاء ابتلاء آخر ؛ وهو الدعاء للقوم الغلاظ الشداد بالرحمة والهداية.
كما قال : «اللهم اهد قومي ؛ فإنهم لا يعلمون» (٢) : أي ليس لهم معرفة بالله تعالى ، ولو عرفوه وقدّروه حق قدره لما صدر عنهم ما صدر من الأذى والجفاء ، ورد الدعوة ، والتجاوز عن المقاولة باللسان إلى المطارحة بالسيئات ، وكان الأنبياء قبله مأذونين بالدعاء على قومه.
__________________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية (٣ / ١٤٨).
(٢) تقدم تخريجه.