إلى أن ينشئه الله ثانيا ، وإنما تمنّى الكافر أن يكون ترابا ؛ لأن التراب أبعده عن الحضرة من حيث إنه من عالم القوة والإنسان أقرب منها من حيث إنه من عالم الفعل ، ولا شك أن العذاب على من كذب وتولى لا على من أعطاه الله خلقه فهدي فافهم جدا.
ثم إنه صلىاللهعليهوسلم إنما توقف في الجواب ، وانتظر الوحي الإلهي مع أن علمه حاضر عنده ، وهو مرئي له ملكوت السماوات والأرض ، كما أن الجواب عن أمر الله أقوى من الجواب عن أمر نفسه ؛ لأن الوجه الخاص تابع للوجه العام ؛ فاقتضى الأدب الإلهي ألا يتكلم إلا بالحق من كل الوجوه ؛ فظهر من هذا التقرير سرّ قوله تعالى :
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥].
وهو أنهم لو كانوا أوتوا من العلم كثيرا ؛ لما احتاجوا إلى السؤال عن أمر الروح ؛ فعلم أنهم جاهلون به لاحتجابهم بالغواشي البشرية.
أنه صلىاللهعليهوسلم عالم به لأنه أقوى روحا من عيسى عليهالسلام ؛ لأنه تعالى قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] : أي أن عيسى روح مبتدأ من روح محمد صلىاللهعليهوسلم (١) بل من الروح
__________________
(١) اعلم أن النبي صلىاللهعليهوسلم روح الحق : اسم من أسمائه صلىاللهعليهوسلم. وقيل : إنه هو معنى ما ورد في الإنجيل أن اسمه البارقليط. وقيل : معنى البارقليط أنه : الذي يفرّق بين الحق والباطل فيكون روح الحق.
والمفرّق بين الحق ، والباطل : اسمان متغايران صادقان على ذاته الكريمة ، ونشأته العظيمة.
فالروح : هو قوام الأجساد والأشباح ، فلا اعتبار لوجود الأجساد ، ولا يعبأ بها لو لا وجود الأرواح.
فمعنى روح الحق في حق نبينا صلىاللهعليهوسلم يحتمل وجوها من الحسن عديدة ، ومعاني موجودة في حقه صلىاللهعليهوسلم فريدة.
فالحق يحتمل أن يراد به : الإيمان الذي بعث الله به جميع الشرائع والأديان.
فيكون معناه : روح الإيمان : أي إن الإيمان إنما ظهر في أرض الله ، وانتشر في قلوب خلق الله بوجود سيد المرسلين ، وبعثة من شرف الله به الأولين والآخرين.
فلو لا هذا الروح الكريم ، والمحبوب لله العظيم لتلاشى وجود الإيمان ، ولم يظهر له أثر في العيان.
وقد يكون الحق : المراد به في الهدى والنور الذي بعثه الله به ، والحكم الشرعي على الذي جاء به ، فهو صلىاللهعليهوسلم نور الهدى ، والنور الذي نوّر الله تعالى به وجود العالم بأسره ، وبه حياته ؛ لأنه ما خلق إلا من أجله.
ويحتمل أن يكون الحق ، أطلق على وجود الأكوان ؛ لأنها خلقت مصحوبة به ، فكان روحا لها في جميع الأزمان.