قال الله تعالى : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٤٠].
اعلم أن الشيطان كاذب ؛ لأنه كافر ، والكافر لا يتحاشى عن الكذب غالبا إلا في هذا المحلّ ونحوه ، فإنه صدق فيه من جهة معرفته أنه لا بد له على المخلصين ؛ وهم عباده المضافون إلى الكاف في هذه الآية ، وإلى الياء في الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].
وفي هذه الإضافة تشريف لهم جدا من حيث إنهم عباده تعالى لا عباد الشيطان والنفس ، والهوى ، والدنيا ، ففيه إشارة إلى أن من اتّبع خطوات الشيطان ؛ فإنه في حكم عبد الشيطان.
وكذا من آثر الحياة الدنيا ، فقد ورد : «تعس عبد الدرهم والدينار (١)» (٢) وكذا من اتّبع هواه كما دلّ عليه قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] ، وقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] : أي الهوى ، والدرهم والدينار ، وسائر متاع الدنيا المرغوب عند أهلها ؛ لأن في كل ذلك ميلا وانحرافا عن الظاهر إلى المظهر لا سيما المظهر الذي يضلّ الله به الظالمين ؛ ولذا قال تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ٨٨] ، وإنما نهاه عن مدة العين إلى زهرة الحياة الدنيا ؛ لأن ذلك من الذرائع إلى دخول حبّ ما
__________________
(١) رواه البخاري (٣ / ١٠٥٧) ، والترمذي (٤ / ٥٨٧) ، ابن ماجة (٢ / ١٣٨٥).
(٢) أي : محبهما ، فعبر عن المحبّة بالعبودية. فلا يكون عبدا خالصا صرفا ، ولا يخرج عن حسّه أحد من الآحاد إلا العبد الذي استخلصه الله ذلك العبد واختاره واصطفاه لنفسه ، فوجّهه بقلبه إلى نفسه ، وقطعه عن جميع التعلقات الكونية فوحدّ عزيمته ، وأدام جمعيته ، فهو فان عن حسّه ، ولا يرى لنفسه محسوسات ولا مدركات ولا معلومات ولا معقولات بإفناء الله تعالى إيّاه حيث تجلّى عليه بصفة من صفاته ، فبظهور صفة من صفاته تضمحل مكنوناته ؛ لأنه إذا قورن الحادث بالقديم تلاشى الحادث في القديم لغلبة سلطانه ، فالعبد إذا رأى قلبه منقطعا عمّا سواه مستقلا بالله ، مستغرقا في ذكر الله ومشاهدته ، فليعرف بأنه ممن أصطفاهم الله ، واختارهم لنفسه فهو موفق ، ومن أهل العنايات الإلهية ، فليجمد الله على ما هداه ، وليشكره على ما أعطاه.