وحاصله : إنهم ما يشاءون في العين إلا أن يشاء الله في العلم ، وما شاء الله في العلم إلا ما شاءه المعلوم ، فارتفع الجبر ، وجاء إلزام الحجة ؛ لأن الله تعالى خلّاق جوّاد فما يعطي إلا ما شاء له ألسنة الحقائق والماهيات ؛ فهو مجيب لسؤال كل سائل ، فليس للسائل إنكار سؤاله ، وإن المعطي له ليس عين السؤال.
ألا ترى أن من أمر غيره بأن يخرج له من كيسه دينارا فلسا ؛ فليس له أن يعارضه في ذلك بأن يقول له : قد أمرتك بإخراج الدينار لا بإخراج الفلس ، فإن للمأمور إن ما وجدت في الكيس إلا الفلس ؛ فهو عين ما طلبت في الحقيقة في صورة طلب الدينار ؛ إذ الإخراج والإعطاء إنما هو من الموجود لا من المفقود.
ولله الحجة البالغة ، فأين تذهبون؟ والكل على صراط مستقيم لا يخطئه ، ولا ينحرف عنه ؛ لأن الله أخذ بناصيته ، فطوبى لمن سلك على طريق الهدى ، وويل لمن سلك على طريق الهوى ؛ ولذا ذمّ الله من اتّبع هواه في هذا الموضع ، وفي غيره إذا لم يقبل الهدى ، وكان أمره فرطا ، فأنّى يفلح الإنسان إذا لم يقبل الإرشاد ، وكيف يقبل الإرشاد ، وقد طبّع على الضلال ، ولم يطبع عليه إلا بأمر غير مجعول ، فليلم نفسه ، أو ليسكت غريقا في بحر الحيرة.
فهذا عالم القضاء والقدر ، ولا يبحث عنه فوق ذلك ، وسرّه ظاهر ؛ وهو الأحوال الواقعة في العالم خيرا وشرا ، والكل ميسر لما خلق له ، إمّا ابتداء ، وإمّا انتهاء ، فإنه الاعتداد بالسعادة العارضة ، ولا بالشقاوة العارضة.
ودعوة الأنبياء من جملة القضاء ، فلا تترك ؛ لعدم إيمان المدعو ، وبهذا وقعوا في الحيرة ، وأشار بالرفع إلى أن من قبل الآيات ؛ فكأنما رفع إلى السماء ، ومن ردّها ؛ فكأنما وضع في سجّين ، فكلّ رفع ووضع ، فهو إنما يكون في الدنيا معنى ، وفي الآخرة صورة ، فترى أهل الملكوت السماوية في علّيين ، وأهل الشهوات الأرضية في سجّين.
فمن كان من أهل الأرض ؛ فليجتهد في الارتفاع إلى السماء ؛ فإن السماء محل التنزّه والإطلاق ، كما أن الأرض محلّ الانقباض والانحباس ؛ فإنها سجن ، كما ورد :