الله على كل حال ، وهو تعالى معهم أين ما كانوا ؛ لكنهم لا يعرفون ذلك ، فيظنون انهم مع غيره ، وهو الأسباب والوسائط حتى إذا زال ما في البين ، وبدا للعين العين ؛ تحققوا انهم مع الله ، فهذا إنما ينفع ، وهم في الدنيا ، فإنهم في الاخرة مكاشفون للحقائق ؛ لكن لا ينفع لهم ذلك.
ولذا قال تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ٢٤] : أي حين ما شهدوا الحق وكاشفوا عنه.
والحاصل : أن التعبير بالردّ في هذه الآية ، وبالرجوع في قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٤٥] ؛ إنما هو باعتبار الحجاب ، والوقوف عند الوسائط لا باعتبار الكشف والوصول ، فإن المكاشف يعرف إنه مع الله على كل حال ، فكيف يردّ المردود ، وهو من تحصيل الحاصل؟ ومن ثم قيل : قيامة العارفين دائمة.
وحملوا قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] على اليومين جميعا ؛ لأن الدين هو المجازاة ، والله تعالى لم يزل يجازي عباده في الدّارين ، نعم إنه قدير ، والعبد من اسم إلى اسم ، كما أشار إليه قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم : ٨٥].
فإن المتقين ، وإن كانوا محشورين إلى الله في الدنيا ؛ لكن حشرهم ذلك قد يكون بحسب الأسماء الجلالية ؛ كالقهّار ، والقدير ، والمريد ونحو ذلك ؛ لأن موطن الدنيا ممتزج بالنور ، والظلمة ، ومختلط باللطف ، والقهر.
وأمّا في الآخرة فيحشرون إلى الرحمن ، وهو اسم لا يقتضي الجلال والقهر ؛ بل الجلال واللطف ، فهم وإن كانوا مع الله في جميع الأحوال ؛ لكن فرق عظيم بين كونهم مع الاسم الرحمن ، وبين كونهم مع غيره من الأسماء الجلالة ، وبه يظهر صحّة السفر من الله إلى الله فاعرف.
* * *