الاجتهاد ، فقد انتفع بعلمه وفقهه من عاصره ، ومن بعده ، وكان الناس عياله في ذلك ، كما صرّح به الإمام الشافعي.
ولا شك أن مرتبة الإرشاد أرفع من درجة الوقوف في مقام الفناء مع الله تعالى ، وذلك أن تلك المرتبة مرتبة التبليغ ؛ وهي مرتبة الأنبياء والورثة ، ومن ثم رجّح المحدّثون على الفقهاء ؛ لأن الفقيه إنما يستدلّ بحديث المحدّث ، فالمحدّث أهل التبليغ ، والسلسة ، بخلاف أكثر الفقهاء ، فظهر أن كون الإمام أبي حنيفة من العارفين ؛ إنما كان بعد الوصول لما ذكرنا من تلك المعرفة بعد الوصول أقوى مما كان قبله.
ولا ينبغي أن يظنّ بالمجتهدين الظنّ السوء ، وقد جاء على المذاهب الأربعة الأولياء المحققون ، ومن البعيد أن يكون المتبوع أنقص حالا من التابع ، فرئيس الأولياء الحنفية ؛ هو أبو حنيفة ، وهكذا وإن كان هنا مقال آخر ؛ وهو أن التقلد بمذهب من المذاهب أمر صوري ، ناظر إلى ظاهر الشريعة ، وللمحققين في باطن الحال أمر آخر ؛ وهو طريق الإطلاق ، والمشي من وجه مخصوص جامع إلى الله تعالى ، فذلك لا ينافي التمذهب بمذهب معين في الظاهر.
وقد غفل عن هذا أكثر من يعدّ من العارفين ؛ فظنوا أن الأئمة الأربعة لم يصلوا إلى مقام الحقيقة وأن أهل الحقيقة لا يتقلّدون بمذهب من المذاهب ، فذلك الظن من قصور المعرفة ، ونقصان الحال.
قال الله سبحانه وتعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤].
هذه الآية عبارة عن : إيقاد الكافرين نار الحرب بأيديهم ، وإيقاد المنافقين بألسنتهم ؛ فيطفئها الله بإزالة الأذى الحسّي عن ظواهر المؤمنين.
وفيه إشارة إلى الحرب المعنوي الذي يوقده المؤمنون في بواطنهم ؛ وهو الاضطراب والتزلزل في مواقع القهر والجلال ، فإن الوقوف معه ؛ كالحرب مع الله ؛ لعدم الاطمئنان والتمكين ؛ فيطفئ الله هذه النار بإزالة الأذى المعنوي عن قلوب المؤمنين بإظهار اللطف والجمال ، فإنه تعالى يقبل التوبة ؛ بل يقبل على عبده ؛ ليتوب ، ويرجع إليه ، فإنه أرحم به من كل رحيم.