: أي أيديكم الكاسبة لفوائد الدّارين ، فإن الدنيا والآخرة حرما على أهل الله ، وحدّد الأيدي دون الوجوه ؛ لما إن الدنيا والآخرة محدودتان مقصورتان ؛ لكونهما من عالم الخلق بخلاف عالم الحقيقة ؛ فإنه لا نهاية له.
فالظاهر وعالم الملك محصور ، والباطن وعالم الملكوت غير محصور ، وحدّدها إلى المرافق ؛ لأن ما وراءها يعدّ من البدن ، فتطهيره داخل في تطهير الحقيقة الكلية.
قوله عزوجل : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ، لم يقل : رؤوسكم عطفا على المغسولين الأولين ؛ لأن الرأس إشارة إلى العقل والخيال ؛ وهما ممسوحان لا مغسولان ، إذ لو غسلا وأزيل حكمهما بالكلية ؛ بطل مرتبة الإنسانية.
فالإنسان ملك بالعقل ، وبشر بالخيال ؛ إذ لا خيال للملك ؛ لكونه خارجا عن الطبع العنصري داخلا تحت الطبيعة الكلية ، وفيه إشارة إلى أن الرأس نازل منزلة المرتبة العرشية ، وليس العرش عن عالم الكون والفساد مطلقا ، وكذا مظهره في عالم الأنفس ، وكل وارد يردّ على القلب ، فإنما يردّ أولا من مرتبة الخيال ، فإن بقى في تلك المرتبة ؛ فهو الشعور : أي الإدراك من وراء الحجاب ، وإن تنزّل إلى القلب ؛ فهو علم الأنبياء والأولياء.
ولذا قال الله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤].
وقوله عزوجل : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦].
دلّ التحديد على أن الأرجل مغسولة لا ممسوحة ، وغسلها إشارة إلى إزالة اكتسابها الطبيعة ، وأعمالها النفسانية ؛ لأن الأرجل متصلة بالبطن حقيقة بخلاف الأيدي ، وسرّ التحديد كما سبق ؛ لأن ما وراء الكعبين يعدّ من البدن : أي عرفا ، وإن كانت الأيدي لغة تعتبر من الإبط ، والأرجل من الورك ؛ فهذه الأعضاء الأربعة إذا غسلت غسلا حقيقيا ؛ فقد غسلت الأعضاء والقوى جميعا ، وأزيلت التعلّقات بالكلية ؛ لأن الحجاب إمّا روحاني ، وإمّا جسماني.
فالأول : أشير بغسل الوجوه ، ومسح الرؤس.
والثاني : بغسل الأيدي والأرجل.