ممن لا يشقّ عليه الفعل ، فإذا علم حسنه ووجوبه ، ودعاه ذلك إلى فعله ، حلّ محلّ أحدنا إذا لم يكن له إلى الانصراف عن الفعل داع ، ولا عليه فيه مشقّة ؛ وذلك يبطل قولكم إنّ معنى الإلجاء لا يصحّ في أفعاله؟ قيل له : إنّ الواحد منّا لا يحصل ملجأ إلى الفعل لما ذكرته ، وإنّما يلجأ إليه ، إمّا لأنّه نفع لا ضرر عليه فيه ، أو يخلص من ضرر عظيم يعلمه أو يظنّه ، أو لأنّه قد علم أنّه إن حاول خلافه منع منه ؛ فعند ذلك لا يستحقّ المدح بما يفعله ، وإن كان حسنا. وكل ذلك لا يتأتى فيه تعالى ، لأنّه إنّما يفعل الفعل لحسنه ، ولنفع غيره ، أو ليضرّ به على وجه الاستحقاق ، إلى ما شاكله مما سنبيّنه ؛ فيجب أن يكون بمنزلة ما يفعله لحسنه (ق ، غ ٦ / ١ ، ١٣ ، ١٥)
ـ قد صحّ أنّ الداعي إلى الفعل هو ما عليه الفاعل من كونه عالما ، أو ظانّا ، أو معتقدا. فإذا علم قبح الفعل ، وثبت أنّ علمه بقبحه لا يجوز أن يدعوه إلى فعله ، بل هو بالضدّ من الحسن في ذلك ، وعلم أنّه غني عنه ؛ وصحّ أنّ الحاجة هي التي تدعو إلى الفعل ، وأنّ الغني عنه بالضدّ منها ، فقد حصل والحال هذه في حكم الملجأ إلى أن لا يفعل. فيجب أن لا يجوز أن يختار الفعل على وجه. كما أنّه مع علمه بما هو عليه في قتل نفسه من الضرر ، لا يختاره (ق ، غ ٦ / ١ ، ١٨٨ ، ٦)
ـ قد بيّن شيخنا أبو علي رحمهالله ذلك بأن قال : إنّ الواحد منّا إذا علم أنّه إن حاول قتل ملك ، قتل دونه ويمنع منه ، فحصل ملجأ إلى أن لا يقتله. فإذا صحّ على هذا الوجه أن يلجئهم فقد صحّ ما أردناه. وقد ثبت بالدليل أنّه تعالى قادر على أن يضطرّنا إلى معرفته. وقد بيّنا من قبل أنّ كل جنس يقدر العبد عليه ، وجب كونه تعالى قادرا عليه. فلا يصحّ أن يقال : إنّ ما يفعله من العلم به ، لا يوصف تعالى بالقدرة على مثله (ق ، غ ٦ / ٢ ، ٢٦٧ ، ٨)
ـ لسنا نخرج الملجأ من أن يكون قادرا على الشيء وضدّه ، وإنّما نقول إنّه يجب أن يختار أحد مقدوراته لحصول الإلجاء ، كما ذكرناه في الملجأ إلى أن لا يقتل الملك ، وفي الملجأ إلى اجتلاب المنافع ودفع المضار (ق ، غ ٦ / ٢ ، ٢٦٧ ، ١٧)
ـ إنّ من حقّ القادر أن يصحّ حدوث مقدوره ، ولا يجب ؛ لكنّا نعلم أنّه وإن كان كذلك ، فقد تقوى دواعيه إلى الفعل ، حتى لا يقع منه خلافه ، وإن كان قادرا عليه. وهذا كالملجإ إلى الهرب من السبع أنّه لا يقع منه الوقوف ، لكنّا نعلم من حاله أنّ ما يقع منه يقع باختياره ، ولذلك يختار في الهرب سلوك طريق دون غيره. ومعلوم من حاله أنه لو قويت نفسه القوة التي يظنّ عندها كونه مفارقا للسبع ، أنّه كان يجوز أن يقف ولا يهرب ؛ ولو لم يكن ما يحدثه من فعله ، لم يجب أن يتغيّر بحسب اعتقاداته (ق ، غ ٨ ، ٥٩ ، ١٤)
ـ وبعد ، فإنّه بألّا يكلّف الشيء لا يصير ملجأ إلى ألّا يفعله ، ولا بأن يعلم بالدليل ألّا يقع منّا باختيارنا ؛ لأنّ أسباب الإلجاء معقولة ، وليست في هذه الأمور حاصلة (ق ، غ ١١ ، ٢٧٩ ، ١٤)
ـ قال شيخنا أبو هاشم ـ رحمهالله ـ في بعض الطبائع : إن الملجأ هو من دفع إلى ضررين يدفع أعظمهما بأدونهما. ومثّل ذلك بالملجإ إلى الهرب من السبع ، والملجأ إلى أكل الميتة إذا دفع به الجوع الشديد ، والملجأ إلى الهرب من العدوّ. وذكر أنّ الإلجاء والاضطرار في