أنظر الآن إلى أهل السنّة كيف وفقوا للسداد ، ورشحوا للإقتصاد في الاعتقاد؟ فقالوا القول بالجبر محال باطل ، والقول بالاختراع اقتحام هائل ، وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلّا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد ، وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ؛ فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد التعلّقين على شيء واحد غير محال كما سنبيّنه. فإن قيل فما الذي حملكم على إثبات مقدور بين قادرين؟ قلنا البرهان القاطع على أنّ الحركة الاختيارية مفارقة للرعدة ، وإن فرضت الرعدة مرادة للمرتعد ، ومطلوبة له أيضا ، ولا مفارقة إلّا بالقدرة ، ثم البرهان القاطع على أنّ كل ممكن فتتعلّق به قدرة الله تعالى ، وكل حادث ممكن ، وفعل العبد حادث فهو إذا ممكن. فإن لم تتعلّق به قدرة الله تعالى ، فهو محال. فإنّا نقول الحركة الاختياريّة من حيث أنّها حركة حادثة ممكنة مماثلة لحركة الرعدة ، فيستحيل أن تتعلّق قدرة الله تعالى بإحداهما ، وتقصر عن الأخرى ، وهي مثلها ؛ بل يلزم عليه محال آخر وهو أنّ الله تعالى لو أراد تسكين يد العبد إذا أراد العبد تحريكها ، فلا يخلو إمّا أن توجد الحركة ، والسكون جميعا ، أو كلاهما لا يوجد ، فيؤدّي إلى اجتماع الحركة والسكون ، إلى الخلو عنهما ، والخلو عنهما مع التناقض يوجب بطلان القدرتين ؛ إذ القدرة ما يحصل بها المقدور عند تحقّق الإرادة ، وقبول المحلّ. وإن ظنّ أنّ مقدور الله تعالى يترجّح لأنّ قدرته أقوى ، فهو محال لأنّ تعلّق القدرة بحركة واحدة ، لا تفضل تعلّق القدرة الأخرى بها ، إذ كانت فائدة القدرتين الاختراع ، وإنّما قوته باقتدار على غيره ، واقتداره على غيره غير مرجّح في الحركة التي فيها الكلام ، إذ حظ الحركة من كل واحدة من القدرتين أن تصير مخترعة بها والاختراع يتساوى ، فليس فيه أشدّ ، ولا أضعف حتى يكون فيه ترجيح. فإذا الدليل القاطع على إثبات القدرتين ساقنا إلى إثبات مقدور بين قادرين (غ ، ق ، ٩٠ ، ٩)
ـ الوجود من حيث هو وجود إمّا خير محض وإمّا لا خير ولا شر انتسب إلى الباري سبحانه إيجادا وإبداعا وخلقا ، والكسب المنقسم إلى الخير والشر انتسب إلى العبد فعلا واكتسابا ، وليس ذلك مخلوقا بين خالقين بل مقدورا بين قادرين من جهتين مختلفتين ، أو مقدورين متمايزين لا يضاف إلى أحد القادرين ما يضاف إلى الثاني (ش ، ن ، ٨٢ ، ١٢)
ـ قالوا (المتكلّمون) : لو لم تكن مقدورات العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ لم يكن إلّا لاستحالة مقدور بين قادرين وهو غير مستقيم ، فإنّه قبل أن يقدر عبده لم يكن الفعل مقدورا للعبد ، فيجب أن يكون مقدورا للرب ، إذ الفعل في نفسه ممكن. والمانع من كونه قادرا بعد إقدار العبد إنّما هو استحالة اجتماع مقدور بين قادرين ، وهذا المانع غير موجود قبل إقدار العبد. وإذا كان مقدورا للربّ قبل إقدار العبد فبعد إقداره يستحيل أن يخرج ما كان مقدورا له عن كونه مقدورا ، فإنّه لو خرج عن كونه مقدورا للربّ بسبب تعلّق القدرة الحادثة به لم يكن بأولى من امتناع تعلّق القدرة الحادثة به ، واستبقاء تعلّق القدرة القديمة به ، بل بقاء ما كان على ما كان أولى من نفيه ، وإثبات ما لم يكن ، وإذا ثبت كونه مقدورا للربّ وجب أن