ـ إنا لا نمتنع من القول بأنّ للمشقّة تأثيرا في زيادة المدح الذي يستحقّه المكلّف ، بل متى لم يكن الفعل شاقّا لم يستحقّ الثواب أصلا. فأمّا المدح فإنّه في أصل الاستحقاق لا يتبع كون الفعل شاقّا ، وإن كان قد يعظم لكونه كذلك ، لكن جميع ذلك لا يؤثّر في أنّ لكون الفعل نفعا تأثيرا في استحقاق المدح ، ولزيادته تأثير في زيادة ما يستحقّ من المدح والتعظيم ؛ ألا ترى أنّ المشقّة التي تلحق بحفر البئر في الموضع المسلوك والطريق المنقطع سواء ، ويستحقّ المدح على أحدهم لمكان انتفاع الناس به أكثر ولذلك يعظم موقع الفعل إذا كثر افتداء الناس به إذا كان خيرا وطاعة ، على ما نقوله في وجه تفضيل النبي صلىاللهعليهوسلم على غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم (ق ، غ ١١ ، ١٠٢ ، ١٨)
ـ إنّ المشقّة إنّما اقتضت استحقاق الثواب من حيث كان لا يحسن من الحكيم أن يجعل الفاعل ممن يشقّ عليه ما كلّفه وحسّنه في عقله إلّا ويستحقّ عليه نفعا يجري مجرى المدح ؛ كما لا يحسن منه أن يؤلم إلّا لنفع يوفي عليه. وليس كذلك حال المدح ؛ لأنّه لا يتبع في الاستحقاق ما ذكرناه ، فلذلك استحقّه من لا يجوز عليه المشاقّ كما يستحقّه من يجوز ذلك عليه (ق ، غ ١١ ، ١٠٤ ، ١٣)
ـ إنّ استحقاق الثواب وغيره بالفعل لا يرجع إلى جنسه ، ويصحّ حصول المنع فيه فلا يمتنع حصول الواجب ممّن لا يستحقّ به الثواب إذا لم يصحّ وقوعه منه على الوجه الذي يستحقّ الثواب به. فأمّا المدح فإنّما وجب تساوي جميع الواجبات فيه ، لأنّه يتبع كون الفعل واجبا أو ندبا أو تفضّلا لحق الفاعل بفعله مشقّة أو لم يلحق. فلذلك يستحقّ تعالى المدح كما يستحقّه الواحد منّا وإن لم يصحّ أن يستحقّ الثواب لما بيّناه (ق ، غ ١١ ، ١٤١ ، ١٢)
ـ إنّ ما يطلب من الشروط في المدح يجب ثبوته في الثواب ؛ وقد يثبت في الثواب من الشروط ما لا يثبت في المدح. والعلّة فيه ظاهرة. وذلك لأنّ المدح إنّما يستحقّه الفاعل بالفعل متى فعله لحسنه في عقله. فأمّا إذا فعل الفعل لدفع المضرّة أو لاجتلاب المنفعة الحاضرتين فإنّه لا يستحقّ به المدح. وما هو ملجأ إلى فعله إنّما يفعله لمنافعه ومضارّه فيجب ألّا يستحقّ المدح ولا الثواب. وأيضا فإنّ المدح إنّما يستحقّه من له إلى فعل غير ما فعله داع فيؤثره عليه ، على تحمّل المشقّة فيه أو ما يجري مجراه. وذلك لا يصحّ مع الإلجاء وكل ذلك يبيّن أنّ مع الإلجاء لا يحسن التكليف. فإذا يجب كون المكلّف مخلّى بينه وبين الفعل متردّد الدواعي إلى الأفعال وخلافها (ق ، غ ١١ ، ٣٩٣ ، ١٣)
ـ قال شيخانا ـ رحمهماالله ـ : لا يصحّ الإلجاء إلى المعارف ؛ لأنّه لا يجوز مع فقد معرفته به أن يعلم أنّه لو رام خلاف العلم من الجهل لمنع منه ، ولأنّه متى علم أنّه لو رام خلافه لمنع منه فقد علم العلم ، وذلك يغني عن فعل علم بأن يمنع منه ، ولوجوه سنذكرها من بعد. فإذا اضطرّه الله ـ تعالى ـ إلى معرفة توحيده وعدله وألجأه إلى ألّا يفعل المقبّحات في عقله فقد صار بمنزلة الممنوع في أنّه لا يحسن أن يكلّف الأفعال ؛ لأنّه إن كلّف أفعال القلوب من ضدّ العلم فهو ممنوع من ذلك. وإن كلّف أفعال الجوارح فهو ملجأ إلى ألا يفعل المقبّح منه. وإذا صار فعل القبيح مأيوسا من