الله بل من أعظم النعم ، فإليه يرجع الحلال والحرام ، وبه تعرف الشرائع والأحكام ؛ وقد اختلف الناس فيه اختلافا كبيرا. فقد ذهبت الحشوية النوابت من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف غير مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى. وذهبت الكلابية إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزليّ قائم بذاته تعالى ، مع أنّه شيء واحد توراة وإنجيل وزبور وفرقان ، وأنّ هذا الذي نسمعه ونتلوه ، حكاية كلام الله تعالى ، وفرّقوا بين الشاهد والغائب ، وما دروا أنّ ذلك يوجب عليهم قدم الحكاية أو حدوث المحكي ، فإنّ الحكاية والمحكي لا بدّ أن يكونا من جنس واحد ، ولا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث. وقالوا : إنّ كلامنا هو الذي نسمعه ؛ وليس هو بمعنى قائم بذات المتكلّم ككلام الله تعالى ، وإلى هذا المذهب ذهب الأشعريّ ؛ إلّا أنّه لمّا رأى أنّ قوله : أنّ الذي نتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف حكاية كلام الله تعالى يوجب أن يكون كلامه أيضا محدثا وأصواتا وحروفا ، لأنّ الحكاية يجب أن تكون من جنس المحكي ، قال : إنّ هذا المسموع هو عبارة كلام الله تعالى ؛ ولم يدر أنّ العبارة يجب أن تكون من جنس المعبّر عنه ، إلّا أنّه قد جرى على القياس فقال : الكلام معنى قائم بذات المتكلّم من دون فرق بين الشاهد والغائب ، فلقد أصاب في خطئه هذا (ق ، ش ، ٥٢٧ ، ٢)
ـ أمّا مذهبنا في ذلك (القاضي) ، فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه ، وهو مخلوق محدث ، أنزله الله على نبيّه ليكون علما ودالّا على نبوّته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام ، واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس. وإذن هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه ، وإن لم يكن محدثا من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة ، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن محدثا لها من جهته الآن (ق ، ش ، ٥٢٨ ، ٩)
ـ الذين قالوا : إنّ القرآن قديم مع الله تعالى ، فهو أن نقول لهم : إنّكم قد بلغتم في الجهالة إلى أقصى الغاية ، فإنّ القرآن يتقدّم بعضه على بعض ، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديما ، إذ القديم هو ما لا يتقدّمه غيره. يبيّن ذلك أنّ الهمزة في قوله : الحمد لله ، متقدّمة على اللام ، واللام على الحاء ، وذلك مما لا يثبت معه القدم ، وهكذا الحال في جميع القرآن ؛ ولأنّه سور مفصّلة وآيات مقطّعة ، له أول وآخر ، ونصف ، وربع ، وسدس ، وسبع ، وما يكون بهذا الوصف كيف يجوز أن يكون قديما (ق ، ش ، ٥٣١ ، ١١)
ـ إنّ الكلام عندنا من جملة أفعاله كالإرادة ، فلا يصحّ كونه مريدا لنفسه ولا بإرادة قديمة ، بل يتبع كونه مريدا كونه فاعلا. فكذلك الحال في كونه متكلّما لا يصحّ أن يكون للنفس ولا بكلام قديم ، بل يتبع فعله الذي هو الكلام. والمخالفون لنا قد أجروا ذلك على نحو مذهبهم في الإرادة ، ونحن وإن فرّقنا بين كون المريد مريدا وبين كونه متكلّما من حيث لا حال له بكونه متكلّما وله بكونه مريدا حال ، فهما من الوجه الذي ذكرناه متّفقان وإن لم يكن الكلام من هذا الباب معنى ، لو لا أنّ القرآن هو دليل على الأحكام الشرعية ، ولو لم يكن فعلا من أفعاله جلّ وعزّ لما دلّ ، فوجب عند ذلك