القول بأنّه تعالى خلق الخلق لعلّة ، فيفارق ما تقوله الجبرية لأنّه إنّما أراد أنّه تعالى فعل هذه الأفعال لوجه الحكمة وهو ما يتّصل بالإحسان والإنعام ، وعند حصول هذا الوجه لا يحتاج إلى تعليله بعلّة سوى ذلك. فلهذا لا يقال في المحسن : " لما ذا أحسنت؟ " لأنّ كون فعله إحسانا كاف فيما لأجله يفعل. فكأنّ هذا الممتنع أراد أن يكون مع ثبات هذا الوجه لا معنى لإطلاق لفظ يوهم الإيجاب ، كما أنّ الأحكام المعلّقة على علل موجبة لا يجوز بعد حصول موجب واحد أن تتطلّب غيره من الموجبات. فهذه جملة صحيحة غير معترضة على ما قلناه (ق ، ت ٢ ، ١٨٠ ، ٧)
خلق الخلق لينفعه
ـ في بيان وجه حسن ابتداء الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأيّام وما يتّصل بذلك : اعلم أنّ ذلك إنّما يحسن منه تعالى على وجوه ثلاثة : أحدها لينفعه ، والآخر لينفع به ، والثالث لأنّه أراده لخلق ما ذكرناه ، مع تعرّي الكلّ من وجوه القبح. وقد دخل فيما ذكرناه ما يخلقه تعالى لينفعه ولينفع به جميعا ؛ لأنّ الشيء إذا حسن لكل واحد من الوجهين فبأن يحسن متى حصلا فيه أولى. ولم يذكر في ذلك خلق من يخلقه ليفعل به المستحقّ ، لأنّ ذلك لا يحسن أولا ، وإنّما يحسن أن يخلقه لهذه البغية ثانيا. فإذا حسن أن يخلق تعالى الخلق لينفعه تفضّلا ، ويعرّضه للثواب والمدح ، وينفعه بالتعويض على الآلام حسن منه أن يخلق غير المكلّف للتفضّل والتعويض جميعا. وقد بيّنا أنّ المنافع على ضربين : مستحقّ وغير مستحقّ ، وأنّ المستحقّ منه قد يكون مستحقّا على وجه التعظيم والإكرام فيكون ثوابا ، وقد يكون مستحقّا على وجه العوض والبدل ، وبيّنا لكل واحد منهما مثالا في الشاهد ، وبيّنا أنّ ما ليس بمستحقّ يكون إحسانا وتفضّلا ، وبيّنا أنّ ما أدّى إلى المنافع يكون في حكمه ، وإن كان شاقّا على فاعله ، وإنّما يحسن متى أدّى إلى نفع يوفي عليه ، ومتى لم يشقّ على فاعله البتّة فإنّه يحسن إذا أدّى إلى أيّ منفعة كان متى عري من وجوه القبح. فإذا صحّت هذه الجملة حسن من القديم تعالى أن يخلق الخلق لينفعه على بعض الوجوه التي قدّمناها أو كلّها (ق ، غ ١١ ، ١٠١ ، ١٢)
ـ على أنّه لا يخلو هذا المخالف من أن يقول : إنّه تعالى خلق الخلق لينفعهم ، أو يقال : إنّه خلقهم ليضرّهم ، أو لا لينفعهم ولا ليضرّهم ، وكذلك القول في الجماد. فإن قال : خلقهم ليضرّهم ، أو لا لنفع ولا ضرر ، فذلك ظلم وعبث ، فلا بدّ من القول بأنّه خلقهم لينفعهم ، وخلق الجماد لينفع به ، وهذا يوجب كون سائر أفعاله حسنا ، فلا وجه لمن قال : إنّه ليس بحسن ولا قبيح إذا اعترف بما ذكرناه ؛ لأنّه يحصل مخالفا في عبارة. فهو بمنزلة من قال في الأفعال كلّها : إنّها لا حسنة ولا قبيحة. وإذا وجب في أفعاله تعالى من حيث فعلها لنفع الحيّ أن يستحقّ بها المدح فيجب كونها حسنة ومختصّة بصفة زائدة على ذلك ، فكيف يقال مع ذلك بأنّها لا حسنة ولا قبيحة. وإذا ثبت في كثير من أفعاله أنّها واجبة ؛ كالثواب وغيره ، فكيف يقال : إنّه تعالى يفعل على جهة الاتّفاق ، وحاله في سائر ما يفعله لا يختلف من حيث يفعل الجميع مع العلم بحاله (ق ، غ ١١ ، ٦٤ ، ١٣)