فكلّ ما هو ممكن الوجود لشيء ـ أى ممكن الحلول فى شيء حلول الأعراض فى الموضوعات أو الصّور فى الموادّ ـ فهو ممكن الوجود فى نفسه بتّة ؛ إذ لو كان ممتنع الوجود فى حدّ ذاته لامتنع وجوده لغيره ، ولو كان واجب الوجود فى حدّ ذاته استحال حلوله فى شيء، ولا عكس. أى : ليس كلّ ما هو ممكن الوجود فى نفسه فهو ممكن الوجود لشيء آخر ، بل : إمّا هو واجب الوجود لشيء آخر ، كالأعراض والصّور ؛ فإنّها بذواتها يستحيل أن تقوم بأنفسها ، أو ممتنع الوجود لشيء آخر يكون محلاّ له ، كالجواهر المفارقة القائمة بأنفسها ؛ فإنّها لا يجوز أن تحلّ شيئا ما أصلا ، لا حلول الأعراض فى الموضوعات ؛ لكونها جواهر ، ولا حلول الصّور فى هيولاتها ، لكونها مجرّدة.
<٤٩> تنصيص ووعد
ألا اخبرك بما ساقنى إليه سائق الفحص وقادنى إليه قائد البرهان : أنّ من خواصّ طباع الإمكان أن يسبق تقرّر جملة الجائزات الذّاتيّة فى الأعيان بطلان فى وعاء الدّهر سبقا دهريّا ، كما يسبق ذواتها البطلان سبقا بالذّات أزلا وأبدا فى لحاظ العقل.
ولقد وقح من جنح من الفلاسفة إلى إثبات التّسرمد فى الأعيان لتقرّر الذّات الممكنة المعلولة ووجود الحقائق الجائزة المجعولة ، وقاحة كبيرة لا تكفّر سيّئتها فى دين العقل ولا يغتفر إثمها فى شريعة الحكمة.
وحيث إنّ سياقة البرهان إلى فطنتك على نظمه الطبيعىّ ما لم تألف سلوك سبيل القدس ولم تلتفت لفت عالم العقل ممّا أراه صعب المسلك عسر المدرك جدّا ، أخّرت ذلك إلى أن أنبّئك قسطا موفورا من أبناء العلم وأسرار الحقيقة ، وأعوّدك شطرا صالحا من عادات أخلاّء العقل وأولياء الحكمة الّذين قصيا هممهم وقصارى نيّاتهم أن يكونوا تبعة للحقّ ورفضة للباطل.