قال أهل المعانى (١) : قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) خرج على لفظهم (٢) ـ حيث قالوا : إنّ الله يستحيى أن يضرب المثل بالذّباب والعنكبوت (٣) ؛ فردّ الله عليهم ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ) ؛ كما أنّهم لما قالوا / للقرآن : هذا (٤) سحر مفترى ؛ قال الله تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ)(٥).
وقال بعضهم : معنى قوله (لا يَسْتَحْيِي) : هو أنّ الذى يستحى منه ما يكون قبيحا فى نفسه ، ويكون لفاعله عيب فى فعله ؛ فأخبر الله تعالى : أنّ ضرب المثل منه ببعوضة فما فوقها ليس بقبيح ولا نقص ، ولا عيب ، حتّى يستحى منه.
وقيل : معنى (لا يستحيى) : لا يترك (٦) ؛ لأنّ أحدنا إذا استحى من شىء تركه.
ومعناه : إنّ الله لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها ؛ إذا علم أنّ فيه عبرة لمن اعتبر ، وحجّة على من جحد.
وقوله : (ما بَعُوضَةً) «ما» : زائدة مؤكّدة ، كقوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٧) ، ولا إعراب لها ؛ والنّاصب والخافض يتعدّاها إلى ما بعدها (٨).
ونصبت (بَعُوضَةً) على أنّها المفعول الثّانى ل (يَضْرِبَ) لأنّ (يَضْرِبَ) ـ هاهنا ـ معناه : يجعل. هذا الذى ذكرنا هو قول البصريّين.
__________________
(١) يريد النحويين من أهل الكوفة وأهل البصرة ؛ وهم المتكلمون على المعانى من جهة اللغة والنحو ؛ وأكثرهم من أهل الكوفة ، مثل الفراء وهشام الضرير ، ومعاذ الهراء وغيرهم ؛ وقد يسمى جماعة من أهل البصرة مثل الزجاج وغيره ـ بإيجاز ـ من (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٤).
(٢) ب : «عن لفظهم».
(٣) كما قال تعالى : (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) [سورة الحج : ٧٣] ، (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) [سورة العنكبوت : ٤١].
(٤) ب : «إنه سحر».
(٥) سورة هود : ١٣.
(٦) (الوجيز للواحدى ١ : ٨) وفى (البحر المحيط ١ : ١٢١) «فعبر بالحياء عن الترك ؛ قال الزمخشرى وغيره : لأن الترك من ثمرات الحياء ؛ لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شىء تركه ، فيكون من باب تسمية الشىء باسم المسبب» وانظر (الكشاف ١ : ٢٠٤).
(٧) سورة آل عمران : ١٥٩.
(٨) انظر (مجاز القرآن لأبى عبيدة ١ : ٣٥).