دنياكم ودينكم ، أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم ، وما فيه من التذكير بالآخرة ، لأن ملاذها تذكّر ثوابها ، ومكارهها تذكّر عقابها. وقد استدلّ الكرخيّ (١) وأبو بكر الرازي (٢) والمعتزلة بقوله خلق لكم على أنّ الأشياء التي يصحّ أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل (جَمِيعاً) نصب على الحال من ما (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) الاستواء : الاعتدال والاستقامة ، يقال استوى العود أي قام واعتدل ، ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد (٣) خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، والمراد بالسماء جهات العلوّ ، كأنّه قيل ثم استوى إلى فوق ، والضمير في (فَسَوَّاهُنَ) مبهم يفسره (سَبْعَ سَماواتٍ) كقولهم ربّه رجلا ، وقيل الضمير راجع إلى السماء ، ولفظها واحد ومعناها الجمع ، لأنها في معنى الجنس ، ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور أو إتمام خلقهنّ ، وثم هنا لبيان فضل خلق السموات على خلق الأرض ، ولا يناقض هذا قوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٤) لأنّ جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء ، وأما دحوها فمتأخر ، وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منها السموات ، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى : (كانَتا رَتْقاً) (٥) وهو الالتزاق (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فمن ثمّ خلقهن خلقا مستويا محكما من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ، «وهو» وأخواته مدني غير ورش (٦) ، وأبو عمرو وعليّ جعلوا الواو كأنّها من نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد ، وهم يقولون
__________________
(١) الكرخي : هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين ولد عام ٢٦٠ ه وتوفي عام ٣٤٠ ه ، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق (الأعلام ٤ / ١٩٣).
(٢) أبو بكر الرازي : هو أحمد بن علي الرازي صاحب الكرخي ولد عام ٣٠٥ ه ومات عام ٣٧٠ ه انتهت إليه رئاسة الحنفية ببغداد وعنه أخذ فقهاؤها (الأعلام ١ / ١٧١).
(٣) في (ز) بعد ما.
(٤) النازعات ، ٧٩ / ٣٠.
(٥) الأنبياء ، ٢١ / ٣٠.
(٦) ورش : هو عثمان بن سعيد بن عدي المصري من كبار القراء ، غلب عليه لقب ورش لشدة بياضه ، ولد في مصر عام ١١٠ ه وتوفي فيها عام ١٩٧ ه (غاية النهاية ١ / ٥٠٢).
وفي (ز) وهو وأخواته مدني غير ورش وهو هو وأبو عمرو وعلي. والتصويب من (أ) ومن غاية النهاية ص ٩٩.