(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨)
بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) والظلمة عرض ينافي النور ، وكيف جمعها ، وكيف نكّرها ، وكيف أتبعها ما يدلّ على أنّها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان (١) وهو قوله : (لا يُبْصِرُونَ) وترك بمعنى طرح وخلّى إذا علق بواحد ، فإذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صيّر ، فيجري مجرى أفعال القلوب ، ومنه وتركهم في ظلمات ، أصله هم في ظلمات ، ثم دخّل ترك فنصب الجزأين ، والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطرح (٢) لا من قبيل المقدر المنوي كأنّ الفعل غير متعد أصلا ، وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنّهم غبّ (٣) الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة ، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبدا ، ولكن المراد ما استضاؤوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، أو وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمد (٤). وللآية تفسير آخر ، وهو أنّهم لمّا وصفوا بأنّهم اشتروا الضلالة بالهدى عقّب ذلك بهذا التمثيل ، ليمثل هداهم الذي باعوه بالنّار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات ، وتنكير النّار للتعظيم.
١٨ ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أي هم صم ، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة (٥) إلى الحقّ مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم ، جعلوا كأنّما إنفت مشاعرهم وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم : هم ليوث للشجعان وبحور للأسخياء ، إلّا أنّ هذا في الصفات وذلك في الأسماء ، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة ، لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون ، والاستعارة إنّما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، لتنوع الرجوع إلى الشيء ، وعنه ، أو أراد أنّهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون.
__________________
(١) في (ظ) شبحا.
(٢) في (ز) المطروح.
(٣) في (ظ) غير ، وهو خطأ من الناسخ.
(٤) في (ز) السرمدي.
(٥) في (ظ) الإضافة.