(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨)
قوله وعلى سمعهم دليل على شدّة الختم في الموضعين ، قال الشيخ أبو منصور (١) رحمهالله : الكافر لمّا لم يسمع قول الحقّ ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقين (٢) ليرى آثار الحدث (٣) فيعلم أن لا بدّ من صانع جعل كأنّ على بصره وسمعه غشاوة وإن لم يكن ذلك حقيقة ، وهذا دليل على أنّ الأسماع عنده داخلة في حكم التّغشية ، والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح ، فإنّه أخبر أنّه ختم على قلوبهم ، ولا شكّ أنّ ترك الختم أصلح لهم (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) العذاب مثل النّكال بناء ومعنى ، لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ، كما تقول نكل عنه ، والفرق بين العظيم والكبير أنّ العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير ، فكأنّ العظيم فوق الكبير ، كما أنّ الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثّث (٤) الأحداث جميعا ، تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره ، ومعنى التنكير أنّ على أبصارهم نوعا من التّغطية غير ما يتعارفه النّاس ، وهو غطاء التّعامي عن آيات الله تعالى (٥) ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلّا الله تعالى (٦).
٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، ثم ثنّى بالكافرين قلوبا وألسنة ، ثم ثلّث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة ، لأنّهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعا ولذا نزل فيهم : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٧) وقال مجاهد (٨) : أربع آيات من أوّل السّورة في نعت المؤمنين ، وآيتان في ذكر الكافرين ، وثلاث عشرة آية في المنافقين نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم ، واستجهلهم ، واستهزأ بهم ، وتهكّم بفعلهم ، وسجّل بطغيانهم وعمههم ، ودعاهم صما بكما عميا ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس
__________________
(١) في (ز) قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي. وهو محمد بن محمد بن محمود ، أبو منصور الماتريدي ، من أئمة علماء الكلام مات عام ٣٣٣ ه وله مؤلفات (الأعلام ٧ / ١٩).
(٢) في (ظ) و(ز) وغيره من المخلوقات.
(٣) في (ز) الحدوث.
(٤) في (ز) الجثة.
(٥ و ٦) ليستا في (ظ) و(ز).
(٧) النساء ، ٤ / ١٤٥.
(٨) مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج مولى لمخزوم ، تابعي ، مفسر من أهل مكة أخذ التفسير عن ابن عباس ولد عام ٢١ ه واختلف في وفاته بين الأعوام ١٠٠ و ١٠٢ و ١٠٤ ه (الأعلام ٥ / ٢٧٨).