لأنفسهم. ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كلّ واحد منهما على صاحبه في عناقه شبّه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) وقيل لباس أي ستر عن الحرام ، وهنّ لباس لكم استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنّه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخّص لكم في مباشرتهن (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) تظلمونها بالجماع وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور (وَعَفا عَنْكُمْ) ما فعلتم قبل الرخصة (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) جامعوهنّ في ليالي الصوم وهو أمر إباحة ، وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة ، أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل ، أو ابتغوا المحلّ الذي كتبه الله لكم وحلّله دون ما لم يكتب لكم من المحلّ المحرّم (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) وهو ما يمتد من سواد الليل ، شبّها بخيطين أبيض وأسود لامتدادهما (مِنَ الْفَجْرِ) بيان أنّ الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأنّ بيان أحدهما بيان للآخر ، أو من للتبعيض لأنّه بعض الفجر وأوله ، وقوله من الفجر أخرجه من باب الاستعارة وصيّرة تشبيها بليغا ، كما أنّ قولك رأيت أسدا مجاز فإذا زدت من فلان رجع تشبيها. وعن عدي بن حاتم (١) قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، فنظرت إليهما ، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود فأخبرت النبيّ عليهالسلام بذلك فقال : (إنّك لعريض القفا) (٢) أي سليم القلب لأنّه مما يستدلّ به على بلاهة الرجل وقلة فطنته إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل ، وفي قوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي الكفّ عن هذه الأشياء دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي الوصال ، وعلى
وجوب الكفارة في الأكل والشرب ، وعلى أنّ الجنابة لا تنافي الصوم (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معتكفون (٣) فيها. بيّن أنّ الجماع
__________________
(١) عدي بن حاتم الطائي ، رئيس طي في الجاهلية والإسلام ، أسلم عام ٩ ه وتوفي عام ٦٨ ه وعاش أكثر من مائة عام (الأعلام ٤ / ٢٢٠).
(٢) متفق عليه من حديث الشعبي عن عدي بن حاتم.
(٣) في (ظ) معكوفون.