إلهي أودعه الله صفاته السبع من حياة وعلم وإرادة وقدرة وسمع وبصر وكلام ،
وسمي المخلوق مخلوقا لأنه وهب هذه الصفات.
وما حدث بين موسى والسحرة أن السحرة
ألقوا حبالهم وعصيهم ، وفي اللغة الحبل السبب كما قال سبحانه في موضع آخر : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ
ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ)
[الحج : ١٥] ، فالحبل الذي ألقاه السحرة إذن سماوي لأنه سبحانه تحدى الإنسان بأن
يحاول مد هذا الحبل إلى السماء ، والحبل بطبيعة الحال ممدود ، إذ الإنسان عاجز لا
حول له ولا قوة من دون هذا الحبل الإلهي ، وكذلك العصي التي هي إشارة إلى القدرة ،
وعند ما ألقى موسى عصاه ابتلعت حبال السحرة وعصيهم ، فها هنا وبعد أن يتم الكشف
يرى المكاشف الوجود وحدة جامعة ظاهرها الخلق وباطنها الحق ، والحق هو الحي ، وهو
المحرك خالق الروح والنفس التي تفعل في الجسد بواسطة الروح.
فظاهرا لا يرى في هذه الحياة إلا هذه
المخلوقات ، وعلى رأسها الإنسان الذي يحيا ويفكر ويختار ، أما الحقيقة فليس ثمت
إلا الله الظاهر بهذه المخلوقات ، وموسى هو الذي رأى كشفا هذه الحقيقة فجعل يبشر
بها فآمن له السحرة الذين يمثلون في الأصل دور كشف أسرار الحياة والإنسان ، فلما
آمنوا لموسى ثارت بهم النفس التي ترفض عادة الانصياع والتسليم الذي هو حقيقة
الإسلام ، ولذلك قال فرعون للسحرة آمنتم له قبل أن آذن لكم ، ثم أعلن أنه سيقطع
أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أي أن النفس تحاول السيطرة على القلب الذي آمن بالتخويف
والوعيد وما شابه.
ولقوله : (مِنْ خِلافٍ) نكتة ، ذلك أن النفس هي التي تدعى ملكية المعقولات ،
والمعقولات متضادة ومتقابلة ، فعن طريق التضاد تحاول النفس إعادة بسط هيمنتها على
القلب ، وعن طريق قذف الرعب والشك في القلب إلا أن القلب الذي كوشف بسر اليقين ،
ورأى اليد النورانية كيف تفعل فيه وفي كل شيء من حوله لا يأبه للنفس ولا يكترث ،
وهو يقبل التضحية بنفسه ويقدم هذه النفس قربانا بين يدي الله الخالق العظيم ، وهذا
ما عبر عنه السحرة قائلين : (إِنَّا إِلى رَبِّنا
مُنْقَلِبُونَ ،) أي أن أصحاب القلوب المنورة أدركت أنها منقلبة إلى الله
وعائدة ، لأنها في الأصل صادرة عنه ، منبثقة منه ، فهو أولى بها منها ما دام هو
صاحب العارية.
٥٢ ، ٥٩ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ
حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا
لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها
بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))
[الشعراء : ٥٢
، ٥٩]