والله حين أرسل موسى وهارون إلى فرعون قال لهما : إني معكما أسمع وأرى ، وقال لهما أيضا موصيا : فقولا له قولا لينا ، فكان موسى وهارون وسيلة للحق ليسمع ويرى ، والحقيقة أن الآلات البشرية وسيلة للتعامل مع الجزئيات نفسها ، وإلا فالحق في غنى عن الوسائط والآلات ، وهو الغني عن العالمين.
٣ ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣))
[الإنسان : ٣]
ما شكر الشاكر إلا بعد أن جعل الله ربه الداعية في قلبه للشكر ، فالشاكر الحقيقي باعث الداعية وهو الله ، وهو سبحانه الذي قدر نفسه حق قدرها ، وقدر الشكر اللازم لهذا القدر ، فلو لا الداعية القلبية ما فكر مفكر في خلق السموات والأرض ولا في نفسه ، ولا في الله ، فالهدى هدى الله ، وهو كلمات بينات نورانية يخطها سبحانه في القلب فيتنور وينجلي ، ويصبح لسان حال الله.
أما الكفور فهو موضع الجحود والكفر ، وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله في الفاتحة ، فسماهم المغضوب عليهم ، ولهؤلاء صراط كما صراط الشاكرين وقال الغزالي : بعض الخلق شرط للبعض الآخر ، فلو شاء الله ما كفر من كفر ولهذا قال سبحانه مخاطبا نبيه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)) [يونس : ٩٩] ، وقال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩].
٤ ، ١١ ـ (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١))
[الإنسان : ٤ ، ١١]
السلاسل والأغلال والسعير إشارات إلى الصفات المذمومة التي يتصف بها الكافرون ، فالغل الصفة السيئة التي تحكم صاحبها ، فلا يستطيع الفكاك منها والخلاص كما يكون حال المغلول عادة ، أما الأبرار فهؤلاء الذين هدوا إلى الحميد من القول والصراط المستقيم ، وهداهم صوت ذاتي ضرب الله لنوره وحكمته كأسا يشرب منها عباد الله ، فالكأس كأس الحكمة التي ينطق بها المؤمن ، وقال صلىاللهعليهوسلم : (إذا أخلص العبد لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ، فهذا التفجير جواني ، لا يعود الإنسان بعده بحاجة إلى تعليم معلم ، فمن دخل هذا المحراب ، والمحراب المدخل إلى عالم المطلق ، وجد فيه النفس