الإشارة إلى ما يراه العارف في يقظة الكشف ، عند ما يسفر الله من وراء الحجب ، ويعلن قائلا : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) [طه : ١٤] ، فإذا الأنا أناه ، والهيكل مستودع والخطاب منه وإليه ، فيتحير البصر ويدهش مما يرى ، وما يراه أن الأرض صارت سماء ، وأن السماء أطبقت على الأرض ، وأن جبريل دنا فتدلى فصار قاب قوسين أو أدنى ، وخسوف القمر فناء الأنا الجزئية في هذا المشهد العظيم ، وسبق أن قلنا إن القمر إشارة إلى القلب ما دام يعكس ضياء شمس الذات ، وجمع الشمس والقمر دخول الجزئي في الكلي وفناؤه فيه ، علما أن هذا الفناء معنوي ، فالأنا تبقى أنا ، لها وعيها وإحساسها ووجودها ، ولكنه وجود إضافي كوجود الظل بجانب الشمس وبالشمس ، قال القشيري : إن قيل فني عن نفسه وعن الخلق ، فنفسه موجودة والخلق موجودون ، ولكنه لا علم له بهم ولا به ، ولا إحساس ، ولا خبر ، فتكون نفسه موجودة والخلق موجودين ، ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق ، غير محس بنفسه وبالخلق ، وقال الدكتور عاطف نصر : الفناء لا تعين المتعين بعودة إلى ما كان عليه قبل أن يكون ، والفناء حال كلها صرافة يخلو فيها شعور الفاني من التعينات ، ويمتلئ بسلب شامل كاشف عن العدم باعتبار أن العدم هو اللاتعين ، وقال : الفناء يعاين كخلو من أي شكل أو صورة ، وهو مدرج تسقط فيه ثنائية الذات والموضوع بتحقيق وحدة شاملة مفنية لهما ، ويفنى الشعور عن موضوعاته ومتعلقاته ، بل ويفنى عن فنائه عن شعوره بأنه فان أي فناء عن الفناء عن نفسه وعن العالم بمعنى فقدان الشعور بنفسه وبالخلق وتحققه بالعدم على نحو شعوري باطن بحيث لا يبقى شيء في بصره أو بصيرته.
ونقول : الفناء كشف تجيء فيه الذات الأم ولدها إليها ، وتدخله تحت جناحيها ، فإذا العرضي مستند إلى الجوهري ، وإذا الفاني موجود بالباقي الأبدي ، وإذا الصيروري سابح في فلك هذا الملكوت القدسي ، فالجمع جمع الأجزاء تحت لواء الوحدانية التي قيل إنها أم الأجزاء وسبب تكثرها وانتشارها ، ومشهد هذا اليوم العظيم يجعل الإنسان يقول أين المفر ، والملاحظ في الآية ورود ذكر الإنسان كاسم الجنس ، فهاهنا برز الإنسان النوعي الذي رأى ما لا يرى ، وما رآه هو الرب الذي هو المستقر ، والذي هو المهيمن ، والذي هو الحاكم الآمر ، والذي هو القضاء مجملا والقدر مفصلا ، وإذا الإنسان محكوم وفق معطى أولي من قبل أن يولد ، ومتصرف بناء على مبدأ فطري مركوز فيه وهو بعد جنين في بطن أمه ، ووصف حال الإنسان هذا بقوله تعالى (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ، فلا عذر للإنسان في كشف هذا الحال ، فالله أولى بالإنسان من نفسه ، وهو نفسه ، وهو الذي قضى ما يجريه على يديه.