وهذا أمر خاص بالمكاشفين الموحدين حيث يرون في مكاشفاتهم كيف تكون الجن الخواطر محكومة من قبل المعقولات الشريفة الثابتة التي وصفت في الآية الثامنة بأنها حرس وشهب ، فبين الله والإنسان ليس ثمت إلا هذه المعقولات الحارسة ، والتي هي في الوقت نفسه الحجب السبعون ألفا التي تحدث عنها صلىاللهعليهوسلم ، وقال : (إنها حجب الله ، جعلها بينه وبين الناس غيرة أن يعرفه ويراه إلا من أراد سبحانه أن يعرفه ويراه من المصطفين المجتبين الأخيار).
وتتساءل الجن حائرين عن الغاية من وجود الإنسان ما دامت هي نفسها جنود الله ، مسلطة على الإنسان بخير وشر ، فهل الشر الغاية من خلق الإنسان ، كما تساءلت الملائكة عند خلق آدم أتجعل فيها من يفسد فيها ، فالخواطر ومنها القابض والمذموم والمثير للشهوات والأنانية والتدافع بين الناس ، تمارس دورها ، ولكنها تجهل حقيقة الهوية التي أوجدتها هي نفسها ، والغاية من خلق الإنسان ... وإذا كان الله خلق الإنسان ليعبده ، فما دور الشر؟ ولماذا للشر هذه القوة والغلبة ، وهذا الحول والطول ، والله سبحانه هو الذي وصف الناس في كثير من المواضع بأن أكثرهم فاسقون مشركون ، غير مؤمنين ، أشحاء ، أشداء على المؤمنين ، والتساؤل نفسه تساؤل الفكر الإنساني في حال التجريد الصرف عن سبب وجوده ، كما أن هذا التساؤل يتضمن العجز عن الإجابة لما يتصف به الفكر من عجز وقصور عن كشف الحقيقة المستورة بحجب الفكر نفسه ، فأفق الفكر محدود ، وهو لا يرقى إلى الأفق الأعلى والأسنى إلا في حال إشراق الأنوار الإلهية التي تنسف قواعد الفكر نفسه ، فالفكر في حال الكشف موجود مفقود ، موجود بربه ، فان بذاته ، وعدة الفكر الدماغ ، وتحدثنا عن دور الدماغ في عملية التفكير ، وقلنا لا تفكير بلا دماغ ، ولهذا كان الفكر مطية الإنسان في الأرض ، وهو سميره وخادمه ، وهو في الوقت نفسه سيده وآمره ، فلا أعجب من هذا المخلوق الذي هو ليس أكثر من شعاع من الوعي الحسي المؤقت له ميلاد وطفولة وقوة ثم ضعف وموت.
والفكر مذ خلق مصنف ، ففريق مهديون ، وفريق ضالون ، ولا سبيل إلى تبديل هذه الكلمات الإلهية التي شاءت أن تتلبس بلباس النفس فظهرت في هيئة بشرية تفكر ، وتعقل ، وتتساءل ، وتذهب يمينا ، وتذهب شمالا ، وتحار وتهدى ، وعبد الله وحده هو الذي يعي حقيقة الفكر كما بينا ، وذلك بعد نجاته هو نفسه من هذه القبضة الفكرية ، فإذا هو هو.
وفي الحقيقة لا حقيقة إلا للحق وحده ، وهذا الابن الفكري ليس إلا انعكاس قوى الأنوار المسلطة على الدماغ ، فثمت حد محدود بين النهائي واللانهائي ، الجزئي والكلي ، الفاني والخالد ، العرض والجوهر ، ولهذا يعي الفكر ، وما يعيه محدود بكيانه الذي تموضع فيه ، فلا تمتد عيناه إلى أبعد من طاقات هذا الكيان ، ولا يستطيع مضيا أكثر من أفق الصفة التي هي