الصبح ببطن نخل ، وهو موضع بين مكة والطائف فإذا حملنا المعاني على المباني كانت الإشارة إلى علم اليقين الذي موعده الصبح ، أو فجر الاستيقاظ من نوم الغفلة ، أما المكان الذي هو بطن نخل ، فالإشارة إلى المعقولات الباطنة التي قلنا إن النخل ورطبها رمز لها فعلم اليقين كشف المعقولات نفسها ، وهو كشف يضع المكاشف مباشرة أمام الله ، فإذا هو باطن الإنسان ، وإذا هو فكره ، وإذا هو خاطره والمسمى الإلهام ، وكل هذا أشير إليه بالنخلة التي قيل إنها خيمة الإنسان.
وكون بطن نخل مكانا بين مكة والطائف فالإشارة إلى هجرة السالكين إلى الله وسفرهم ، ثم الإسراء بطي المكان من المسجد الحرام حيث يحرم الفعل تماما على العبد الذي أسري به ، حتى يبلغ المسجد الأقصى حيث الفلك الأقصى ، وهو ما يسمى في التصوف الفلك المكوكب ، وما نسميه فلك الزماكان ، حيث يتم بعدها العروج بالعبد في سماء المعقولات ، فالرحلة كلها هي من المعقولات ، وبالمعقولات ، وخلال سموات المعقولات ، حتى يبلغ العبد سدرة المنتهى ، شجرة المنتهى الجامعة ، وهي شجرة إبراهيم أبي الأنبياء ، والسورة تتحدث عن المعقولات بعد أن كشف للعبد المصطفى الذي رأى ما لا يرى ، وسمع ما لا يسمع ، وما رآه أن هذه المعقولات تنطق ، وهي موحدة لكونها إلهاما إلهيا ، حاشاه سبحانه أن يكون ثمت إلهام لغيره ، وأنها تعرف ربها في القدم ، وتعرفه على قدم التوحيد ، وذلك بدهي لأنها هي نفسها فكر خالص مجرد ، وواسطة ظهور وفعل.
ومعلوم أن الإلهام هدى وضلال ، وكنا قد تحدثنا عن وجود الانشطار والازدواجية في الفكر والنفس ، فشطر هو ما سمي في الآية الرابعة سفاهة ، وسمي صاحبها سفيها يقول على الله شططا أي كذبا ، وشطر يرد على هذا الكذب وهو مؤمن موحد ، والإشارة إلى الدور الذي يلعبه الانشطار وكلاهما ينطق باسم الله ، ولكن شقة واسعة تفصل بينهما.
فالإلهام جامع ، ولا خروج حتى للشيطان وجنوده على الله ، ولهذا أعلنت الجن المؤمنون ، أي المعقولات الجميلة ، أنه لن تقول الجن والإنس على الله كذبا ، ما دام للحق الجمع ، وما دام هو الذي أراد دفع الناس عن طريق دفع الخواطر بعضها ببعض إحداثا للتناقض.
وتحدثت الآية السادسة عن رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ، وهذا صحيح ، لأن الرجال جميعا ، بل النساء أيضا ، يعوذون بالجن أي بخواطرهم ، فمن هو الإنسان من غير خواطره؟ وإذا جردنا الإنسان من فكره فما الذي يبقى منه؟ وهل يبقى منه إلا ما يبقى للمجنون الذي لا يعقل؟ والخواطر ترهق الإنسان لأنها القابض عليه من باطنه ، ولا فكاك له من أسرها ، حتى يأذن الله بمجيء الفتح واليقين ، فينجي عبده من أسر قرينه من جن الخواطر ،