الإشارة إلى سماء المعاني وما فيها من معقولات ، وكنا قد تحدثنا عن المفاهيم القبلية الكانطية والمقولات الكلية الهيغلية والمفاهيم الأزلية اللايبنتزية ، كما تحدثنا عن أسماء الله الحسنى وصفاتها الثابتات من الكليات الحاكمات ، فهذه كلها سماء ذات أسس ثابتة لا سبيل إلى تغييرها ، ومعلوم لدى الفلاسفة القدامى أن العقل الفعال هو الذي علم العقل الهيولاني المادي ، وجعل ما فيه بالقوة بالفعل ، وهو الذي طبعه بصور المنقوشات الأزلية ، فالإنسان بين رحمتين رحمة شملت دنياه ورحمة شملت آخرته وعالمه الروحاني ، فلو لا الله ما استوى العقل الإنساني على عرش الوجود ، ولما رفعت شعارات الحق والعدل والخير ، ولما تغنت الشعراء بالحب والتضحية والجمال. فكل ما لدى الإنسان من إنسانية هو بفضل من الله ، ولولاه ما تبوأ الإنسان هذه المكانة الرفيعة في الوجودين الأرضي والسماوي ، ولو شاء الله لمسخ الإنسان على مكانته فإذا هو غير ما هو عليه ولعله يكون حيوانا بل أحط منه قيمة وشأنا ، ولو شاء الله لقلب المفاهيم قلبا فشالت كفة الميزان ، وانسفلت الأخرى ، فإذا العدل ظلم ، والخير شر ، والإيمان إلحاد ، والجمال بشاعة ، والطهارة نجاسة ، وإذا كل القيم قد زالت قيمتها في الوجود الإنساني الذي ما عاد إنسانه إنسانا ، يمينا إن الإنسان في جنة يحبر حتى وإن جعلت المشيئة الإلهية في الناس الأخيار والأشرار ، المؤمنين والملحدين ، الطغاة والمصلحين ، إذ الشيء بنقيضه يعرف.
١٩ ، ٣٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))
[الملك : ١٩ ، ٣٠]
الطير الأرواح التي تحدث عنها ابن عربي في لقائه بابن رشد شارح أرسطو الأكبر عند ما قال له في ختام الحوار : وبين نعم ولا تطير الأرواح ، فالأرسطية جعلت الإنسان أرضيا ،