والعارفون غرباء في الآخرة ، فأخوف ما يخاف الموحدون على أصحاب اليمين أن يظلوا وراء حجاب الأنا والصفات ، وأن تكون أدواء العجب والكبر والدعاوى لهم بالمرصاد فتأكلهم كما تأكل النار الحطب ، فالنجاء النجاء يا أصحاب اليمين ، فثمت فوق جناتكم جنة القرب الأعظم حيث الفناء الأعظم حيث الظهور الإلهي التام ، فما دام الإنسان محتفظا ببقية من آثار الأنية والاسم والصفة فسيبقى حبيس هذه الأقفاص ، سجينا وراء الأسوار ، والله بالمرصاد يدعو إليه أصحاب اليمين ، فهبوا يا أهل النعيم ، واهجروا جناتكم لتظفروا بالكنز الدفين ، ولتجيئوا إلى ميقات ربكم فيكشف عنكم الغطاء ، فلا أنا تبقى ، ولا صفات ، ولا هياكل ، ولا رسوم ، ويبقى الله وحده الحي القيوم ، فتفنون في الأنوار ، وتبقون في الأنوار ، وتحيون الحياة الحقيقة ، الحياة الإلهية التي يكون فيها العبد مرآة الأنوار ولسان الأنوار وترجمان الأسرار ، كما كان الرومي والشيرازي وابن الفارض والعطار ، قال البسطامي : إلى متى بيني وبينك هذه الأنانية؟ أسألك أن تمحو أنانيتي عني ، حتى تكون أنانيتي أنت ، فتبقى وحدك ، ولا ترى إلا وحدك يا عزيز ، وقال : الجنة هي الحجاب الأكبر ، لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة ، وكل من سكن إلى هواه فهو محجوب ، وقال أبو العباس المرسي : خرج العباد والزهاد من هذه الدار وقلوبهم مغلقة عن الله عزوجل ، وقال أبو عبد الله محمد النيسابوري علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة ، وقال علي المزين متى ظهرت الآخرة فنيت فيها الدنيا ، ومتى ظهر ذكر الله تعالى فنيت فيه الدنيا والآخرة ، وسمعت رابعة قارئا يتلو قوله تعالى إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ، فقالت مساكين أهل الجنة ، في شغل هم وأزواجهم ، وقال جلال الدين الرومي ما أكثر الناس الذين يؤدون العبادات ، وقد علقوا قلوبهم بالرضوان والثواب ، فهذه العبادات في حقيقتها معصية خفية ، وقال أبو يزيد لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضج أهل النار من النار ، وقال أيضا : من عرف الله صار للجنة بوابا ، وصارت الجنة عليه وبالا ، وقال الإمام النفري : يقول الله لعبده الواقف بين يديه : يداه فوق متون السماء والأرض ، وفوق الجنة والنار ، لا يلتفت إلى كل هذا ، فأنا حسبه ، وقالت رابعة إلهي ما عبدتك طمعا في جنتك ، ولا خوفا من نارك ، ولكن لأنك إله تستحق العبادة.
أما أصحاب الشمال فهم الذين اطرحوا الله ومعقولاته ، وركبوا رؤوسهم ، وركبوا متن هذا العالم المجنون ، وكيف لا ، وقد جعل الله هذا العالم ، وجعل النفس الدنيوية أسفل سافلين ، وترى أهل الدنيا يشربون من هذا الماء الأجاج فلا يزدادون مع الأيام إلا عطشا ، والنفس أمارة ، لا تكاد تقضي وطرها من شيء مدت عينها إليه حتى تمد عينها من ثم إلى قضاء وطر جديد ، فالإنسان الدنيوي بين نارين ، نار شهوة انقضت ، ونار شهوة آتية ، والأحلام التي هي