أما الواسطة الثانية للمخاطبة فهي الصور ، وكنا تحدثنا عن السوق في الجنة التي ليس فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء فهذه الصور هي ما وصفت هنا بأنها ولدان ، وهؤلاء الوالدان مخلدون ، لأن الصور خالدة ، وقالوا في هذه الصور ، التي هي الأعيان الثانية ، إنها متأخرة عن الله بالذات لا بالزمان ، وقلنا إنها إشعاع منبعث عن الله كما تبث الشمس أشعتها ، فتكون هي هو ، وتكون هي لا هو ، وتكون هي هي ، وتكون هي لا هي ، والأكواب والأباريق إشارة إلى الأطر التي تظهر بها الصور ، ولقد ظهر جبريل للنبي في شخص دحية الكلبي أجمل الناس وجها. والحقيقة كما قال هيغل إن الوجود العياني كله هو ظهور للروح ، وضرب الله لرسوله مثلا لظهور روحه في شخص دحية ، فالأطر العيانية هي الأكواب والأباريق ، وثمت لطيفة في الأكواب والأباريق ، إذ الأكواب أقداح لا عرى لها ، أي لا آذان أو أيد ، والأباريق لها عرى وخراطيم ، والإشارة إلى الظاهر والباطن من الإنسان ، فالكوب بلا عرى إشارة إلى الباطن وهو مكان ظهور الروح أي محل للمخاطبة ، ولهذا قلنا إن الإنسان بوق وجهاز استقبال وإرسال لا سلكي ، أما الإبريق فإشارة إلى ظاهر الإنسان ، وهو ظهور للروح أيضا ، وعبر عن الظاهر بأذني الإبريق ، والإشارة إلى حواس الإنسان الظاهرة من سمع وبصر وكلام.
فالعالم الظاهر صار دابة للإنسان المصطفى والمجتبى ، وبهذا تكون الدنيا عند المكاشفين قد تحولت إلى آخرة ، كما قيل في العارفين إنهم أقوام ماتوا ، ثم حشروا ، وأحكموا مقام الفناء ، ثم رقوا إلى مقام البقاء ، فيكون لهم في كل مدخل ومخرج برهان وبيان بإذن من الله تعالى ، فهم على بصيرة من ربهم ، وقال ابن عربي : للعارفين مقام الآخرة في الدنيا.
فدابة العارف المقرب وحدوية حسية ، أو هي الجسم الكلي ، وهي الدابة التي قال فيها سبحانه : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) [سبأ : ١٤] ، وهي الناقة التي قال فيها سبحانه : (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) [الشمس : ١٣] ، فالعارفون بلغوا الآخرة وهم في الدنيا ، وزويت لهم الأرض ، وهم في سلام دائم وعيش ناعم ، والدنيا صارت لهم قرة أعين ، وهم في أحضان الألوهية يحبرون ، فسبحان من جعل الدنيا مطية إلى الآخرة ، وسبحان من عجل لعبده المصطفى بلوغ الآخرة ، ولقد حدثنا رسول الله عن الجنة وأهلها ، وعن النار وأهلها ، وقال مثلا : اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها من النساء.
٢٠ ، ٢٦ ـ (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))
[الواقعة : ٢٠ ، ٢٦]