فمن شاء أن يبلغ هذا الفلك الأقصى ، ومن أراد أن يشق طريقه من محيط الدائرة الوجودية إلى مركزها فما عليه إلا أن يركع ليفهم ، أما سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد فلقد رفض ذلك قائلا : لن أركع حتى أفهم ، فكان جزاؤه فلسفة وجودية حائرة مضيعة تقوم على قواعد من المصادفة والوجود والعدم.
وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، هو الذي يصطفى من عباده عبدا يصنعه على عينه ، ويكشف عنه الغطاء ، ويريه آياته في الآفاق وفي نفسه إنه هو المليك الحر ، يفجر من النفس التي صارت عجوزا عقيما عيونا من العلم ، وأنهارا من الحكمة ، سبحانه هو مالك النفس وبارئها وجاعل المعلومات فيها منقوشة ، حتى إذا شاء جعل ما هو بالقوة بالفعل ، إنه على كل شيء قدير.
٣١ ، ٣٧ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))
[الذاريات : ٣١ ، ٣٧]
الإشارة إلى أصحاب الحواس الحسية الذين أرسل عليهم حجارة من طين ، والطين هو الصلصال والحمأ المسنون الذي خلق منه آدم ، فتصبح القضية كالتالي : الإنسان شطران ، شطر من طين أو مادة ، وشطر من روح ، أما شطره المادي فتتبعه حواسه ، ومعها نفسه الطينية التي لا انفكاك لها عن المادة ، وأما شطره الروحي فهو ذاته التي هي جزء من الذات الإلهية وسميت النفس الناطقة الشريفة ، ولهذا قلنا إن آدم جمع في شخصه النهائي واللانهائي ، المادي والروحي ، الثابت والتحول ، العدم والوجود.
والآيات تشير إلى أن من لم يتوجه إلى شطره الروحي فسيظل قيد شطره النفسي المادي ، قال الإمام الغزالي : من لم يسافر إلى عالم الملكوت ، وقعد به القصور في عالم الشهادة فهو بهيمة بعد ، محروم من خاصية الإنسان ، بل أضل من بهيمة ، وقال الإمام المرسي : من لم يتغلغل في هذه العلوم أي علوم التوحيد مات مصرا على الكبائر وهو لا يعلم.
وقولنا الحواس حسية قد فصلنا الكلام فيه في كتابينا الإنسان الكامل والإنسان الكبير ، فهذه الحواس تولد مع الجسد ، وتنمو بنموه ، وتبلغ أشدها ، ثم تضعف ، ثم تموت بموت الجسد ، فهي منه وهو منها ، وهما جميعا آلة للحق لأن عالم العيان كله للحق ، ومن صنع الحق ، وإن كان صادرا من العدم وصائرا إلى عدم ، فالحواس وإن كانت مراكزها الدماغ والدماغ مادي ، إلا أن القوة التي تجعلها تعمل هي روحية.