فلقد حملت ووضعت يحيى عليهالسلام ، والإشارة إلى النفس التي مسها الكبر ، وبلغت من الكبر عتيا ، وقالت ما نالت من المعقولات المجردات بعد أن جردت المحسوسات ، والمعقولات الصرفة المحصلة بالحدس ، فبلغت بذلك أقاصي فلكها ، ولم تعد قادرة على الإنجاب أكثر ، فقواها قد بدأت تفتر ، وحواسها ضعفت ، وردت إلى أرذل العمر لكي لا تعلم من بعد علم شيئا ، كما حدث للفيلسوف كانط ، وهو ثاني أعظم فيلسوفين في التاريخ بعد أفلاطون ، فصار في كبره كالطفل الصغير.
فللفكر حدود لا يستطيع تجاوزها ، وما ألفنا هذا الكتاب وغيره من كتبنا الصوفية إلا لننبه الناس على أن السوبرمان الذي بشرت به المفكرون الغربيون المحدثون ، والذين لم يستطيعوا أن يبلغوا أفقه ، ولا أن يكشفوا النقاب عن ماهيته ، وكيف يكون إنسانا متفوقا أعلى بحق ، هذا الإنسان السوبرمان هو الموجود لدى الصوفية ، وهو الذي أشار إليه سبحانه في كتابه بولادة يحيى الذي لم يجعل له من قبل سميا ، إذ هو ممثل اسمه تعالى الحي ، وممثل اسمه العليم.
فما عجزت الإنسانية عن حمله ووضعه جمعاء حملته الأنبياء والأولياء ووضعوه ، وهو الإنسان الكامل الأعلى الذي هو خليفة الله بحق ، زينة للناظرين وقبلة للعاشقين ، وهدى ورحمة للعالمين ، وارث علم الأولين والآخرين ، ويكفي الإنسان أن يقرأ أعمال الإمام الغزالي الذي قال فيه ناقد غربي : ما أنجب الفكر الإسلامي مفكرا كالغزالي ، وأعمال ابن عربي وبخاصة الفتوحات ، ليرى إلى الأفق الذي بلغه هؤلاء العمالقة الذين كشف الله عنهم الغطاء ، فرأوا ما لا يرى ، وسمعوا ما لا يسمع ، حتى قال سلطان العارفين : إذا أخذ العارف في مشهد من مشاهد الربوبية حصل في مقدار يومها في تلك اللحظة من العلوم الإلهية ما يحصله غيره في عالم الحس مع الاجتهاد والتهيؤ من العلوم الإلهية في ألف سنة من هذه السنين المعلومة.
والحضارة الغربية ، بل الحضارات جميعها قديمها وحديثها ما تزال تحاول جاهدة كشف النقاب عن الحقيقة ومعرفة سر هذا الوجود العظيم .. ومع هذا فلقد وضع إشبنلجر الألماني كتابه «سقوط الغرب» ، معلنا أن الحضارة الغربية بلغت أوجها ، وهي من ثم ستضعف وتسقط كما حدث لسابقاتها من الحضارات ، فما بعد فلك الحضارة الحسية فلك لم تبلغه ، ولم تبق إلا علوم الدين وحدها القادرة على بلوغ الفلك الأقصى والمقصد الأسنى ، وتقول كما قالت الأنبياء من قبل من أين ، وإلى أين ، وكيف ، ومن الحق ، ومن الخلق ، وما علاقة الحق بالخلق ، وعلاقة الخلق بالحق ، وما البداية ، وما النهاية ، وما القضاء والقدر ودورات الزمان المستمر.