إن الفيلسوف لا دين له يدل على أن كل ما عنده باطل ، وقال أيضا : الفلسفة معناها حب الحكمة ، وكل عاقل يحب الحكمة ، غير أن أهل الفكر خطؤهم في الإلهيات أكثر من إصابتهم ، والعارفون بالله وحدهم هم أهل اليقين ، هم في جنات النعيم من العلوم ، ينهلون من عيون العلم الإلهي قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم ، لياليهم كلها ليلة القدر يتنزل فيها القرآن العظيم على قلوبهم فيعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ويزيدهم علما إلى علومهم ، فهم في رياض العلم يحبرون.
والإحسان الطريق إلى يوم الدين وإلى جنات النعيم ، فبالإحسان الإلهي وصل الإنسان العالم العلوي واطلع كنه حقيقة الملكوت ، فمن يطاول هذه الذرى؟ ومن يسامق هذه الأشجار الباسقات؟ ومن يكون أهلا للوقوف مع هؤلاء البررة الواقفين على جبل عرفة وقد تحققوا الأمر من قبل ومن بعد ، ومن تحت ومن فوق ، فهم على الأعراف رجال الله ، وكم لله من رجال.
١٧ ، ٢٣ ـ (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))
[الذاريات : ١٧ ، ٢٣]
ربطت الآيات بين قيام الليل والاستغفار بالأسحار وبين الآيات الكائنة في النفس ، ويقول برجسون : كلما ازداد انشغالنا بالحياة قل ميلنا إلى النظر والتأمل ، وقال صلىاللهعليهوسلم : (ساعة تفكر خير من سنة عبادة) ، فالمهم عدم غرق الفلك في بحر الحياة العاصف ، والإسلام بخاصة دين يحقق التوازن بين مطالب الروح ومطالب الحياة ، فالمسلم الحقيقي فارس الدنيا والآخرة.
وتتحدث الآيات عن المحسنين الذين بلغوا اليقين ، وتصف الطريق إلى اليقين ، وتشبه الآيات بما جاء في سورة المزمل التي أمرت النبي والمؤمنين بأن يقوموا الليل إلا قليلا ، فالله جعل الليل للعبادة الحقة وللتفكير في الخلق والنفس.
والتشديد على أداء الفرائض والنوافل غايته وضع العبد بين قوسي العبودية بحيث يتمكن من ثم من الدخول في بوابة الغيب الضيقة الواسعة ، فعندما يفرغ المؤمن قلبه من هموم الدنيا يصبح القلب عبدا حقا لصوت الضمير الذي يحثه على الركوع والسجود والاستغفار في الأسحار .. ثم تطلق الإشارة ، فإذا صوت الضمير الواحد واحد في الاثنين العدد الذي قال فيه أفلوطين : الواحد الذي صار اثنين ، فالواحد على حاله ، أي الواحد الذي قبل الاثنين ، والواحد في الاثنين كلاهما أحدان ، والأحدان كلاهما في الاثنين سواء ، فما دام الحق ملهم النفس فجورها وتقواها فالمهم وضع اليد على هذه العين الجامعة للتضاد ، والتي يسميها ابن