في الصور ، ثم فصل بين المادة والصور وبين العقل الفعّال ، فجعل الله مثل حاكم مدينة ليس له إلا السياسة والتدبير دون أن يعلم ما يحدث في المدينة. وما أحوال هذا العالم المكثر.
ومعلوم أن شوبنهاور كان يفصل بين القول والفعل ، فكان يدعو إلى الزهد في العالم في مؤلفاته وهو مقبل على اللذات ، غارق في الشهوات إلى أبعد الحدود ، ومن اتبع الشهوات قعد عن الجهاد الأكبر أي جهاد النفس ، ونتيجة القعود عن الجهاد النفسي عدم التمييز بين الأسماء بشقيها المظلم والمضيء ، فيكون الحاصل أن لا توجد أسماء مضيئة في العالم ، ولا يوجد إلا الظلام ، وهذا هو جوهر النقد الذي وجهه الشاعر جوته إلى صديقه وتلميذه الدكتور شوبنهاور ، وكانت شجرة الزقوم التي أكل منها شوبنهاور هي التي قدمها بدوره طعاما للناس عندما أعلن أن لا يوجد تحت هذه القبة إلا ظلمات فوقها ظلمات ، وكان الرجل يشك في كل شيء ، وفي كل أحد ، ويشك في كل امرأة وقد جعل حواء أسفل سافلين ، فالشيء في ذاته الذي وجده شوبنهاور في ذاته كان من طبيعة ذاته الطينية الغارقة في الأوحال ، ولهذا كانت مقولته الشهيرة إن الإرادة الحاكمة في الوجود مجنونة عمياء.
وكانط أصر على اتباع الطريق الأخلاقي ، ومن قبله شق الطريق نفسها الإمام الغزالي ، حتى عاش تجربة الكشف ، وخرج منها عارفا بالله ، فما الدور الذي تقوم به الأخلاق في تجربة الكشف؟ والجواب أنها تميز الصور المظلمة من المضيئة ، ثم يرفع الكشف الحجاب ، ويكشف الغطاء ، فيتم الجمع بين الصور المظلمة والصور المضيئة ، وهذه هي بوابة التوحيد ، ثم يبدأ الله تعليم عبده عن طريق الصور ، كما فعل بيوسف الذي درب درب الأخلاق فلم يأت الفاحشة ، ولم يخن ربه الذي أحسن مثواه ، فتولاه الله ، وأدخله في رحمته ، وعلمه من لدنه علما حتى صار عالما تأويل الأحاديث وتعبير المنام.
ونجد في قصته أن الأحلام التي تخص عالم اللاشعور ، أي عالم الباطن ، لها صلة بالعالم الظاهر وما يقع فيه من أحداث ، فلقد رأى الملك سبع بقرات ثمان يأكلهن سبع عجاف ، فعبر يوسف الرؤيا بسنين سبع خصبة تعقبها سنون سبع عجاف ، ونصح للناس أن يدخروا قمحهم للسنين العجاف وحدث ما تنبأ به يوسف عليهالسلام.
فنحن إذا أمام ظاهرة فريدة من نوعها في تاريخ الإنسان ، وهي إمكان وصوله إلى عالم المطلق والشيء في ذاته ، والذي هو جوهر الوجود وحقيقته ، والاستفادة من ثم من هذا الإله المطلق العليم الخبير القادر الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون.
فالقضية التي شغلت بال الفلاسفة منذ القدم وهي الشيء في ذاته ، أو حقيقة الوجود ، قد حلت عن طريق الأخلاق كما قال كانط ، وكانت الأنبياء ثم أولياء الصوفية أعلام هذا العلم