وتكون النتيجة كالتالي : عندما ينتقل الإنسان من مرتبة العبودية إلى مرتبة العبدية ، أي من مرتبة الإنسان العادي إلى مرتبة الإنسان المتأله ، يكون قد أتم إحصاء الأسماء المعقولات التسعة والتسعين ودخل جنة العلم الإلهي ، وتبدأ من ثم مرحلة التعليم اللدني ، كما قال سبحانه في العبد الصالح : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] ، وكان علم هذا العبد فوق علم موسى صاحب الشريعة.
ويتم التعليم بأزواج المعقولات نفسها ، أي بالصور المعاني المستخلصة من المباني ، ولقد كشفنا في هذا الكتاب وكتبنا السابقة أهمية الجهاد الذي يذكر بوصيّة كانط المشهورة أن على الإنسان أن يتبع الطريق الأخلاقي ، وسمى كانط هذا الطريق القانون الأخلاقي ، لأنه بالفعل قانون فطري مغروز في الإنسان ، مركوز فيه ، تتفق عليه الناس أجمعون ، وينشده الناس أجمعون ولا يختلف فيه مؤمن وكافر ، طاغية وعادل ، فما دام القانون الأخلاقي قانونا ، أي نظاما كليا وجوديا صادرا عن الوجدان وساكنا الوجدان كانت النتيجة أن الجهاد هو رفع رايات وشعارات الأخلاق ، وبالتالي إظهار حصيلة معقولات هي ما سمتها الآية السابقة : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحجّ : ٥] ثم يأتي صاحب القانون الأخلاقي ليثبت المجاهدين ، أهل الجنة المتقين ، فيبدأ الكشف عن ذاته بواسطة صور المعقولات نفسها ، قال سبحانه : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطّور : ١٦] ، فيوحد أولا بين المتضادات ، النقائض ، وهذه هي المكاشفة ، وتسمى كشف الصفات ، ثم يربط بين الصور ربط علميا ، فتكون النتيجة كشف الذات ، أو كشف الشيء في ذاته ، كما يقال في الفلسفة ، وهذه هي المشاهدة.
وقضية الشيء في ذاته كانت الرئيسية في الفلسفة التي اختلفت فيها الآراء ، وتعددت النظريات ، وكثرت الفلاسفة ، فكانط قال إن معرفة الشيء في ذاته مستحيلة ، ما دام العقل يقف حاجزا بين الإنسان ومعرفة الحقيقة ، ثم أشار كانط إلى الطريق الممكن سلوكها ، وقال شوبنهاور إن الشيء في ذاته موجود في النفس ، ما دامت النفس مؤلفة من ذات عالمة وذات معلومة كما هو ملاحظ لدى الفلاسفة المشهورين بالاستبطان والتأمل الذاتي ، لكن شوبنهاور كشف الغطاء ، ولم يتحدث عما في الوعاء ، ثم وصف الشيء في ذاته بأنه إرادة مجنونة عمياء ، وهذه شناعة عظيمة في حق الموجود في ذات الإنسان ، لقد أراد شوبنهاور أن يفسر سبب وجود ظاهرة الشر فكان هذا التخبط بين الخير والشر الملاحظ في فلسفته كلها.
والصوفية وحدهم هم الذين تابعوا وصف طريق كانط حتى النهاية ، فكانط وقف عن حدود الكشف ، ولم يقل ما الكشف وكيف يكون ، وأفلاطون قال إن ثمت عالم الصور ـ المثل ، ثم لم يقل كيف يتم تعليم الإنسان عن طريق الصور ، وأرسطو قال إن الصور في المادة ، والمادة