تشرح الآية القصد من الخلق ، والقصد التعارف ، والتعارف تعارف الأسماء ، فالإنسان يولد جاهلا الناس وصفاتهم ، بل هو جاهل نفسه وأبعادها وتناقضها ، فالإنسان خلق ليتعرف ، يتعرف الناس أولا ، ويتعرف نفسه ثانيا ، فإذا تم هذا تعرف الله وذلك بأن يتعرف ربه إليه ، ومن وصل هذا المقام كان عند الله كريما ، وكان من المتقين.
١٤ ـ (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))
[الحجرات : ١٤]
الإسلام الدرجة الدنيا من سلم التسليم ، وفيه كثير من الحجب بين الله والإنسان ، وأكثفها حجاب الأنا ، ولهذا كان المسلم في بداية إسلامه عرضة لمشاهدة أناه وفعله ، والتباهي بفعله كما سبق أن قلنا ، فالمسلم بحاجة إلى توفيق وتسديد من ربه ، وإلى كثير من البلاء حتى ينجو مما هو فيه من شرك خفي.
والإيمان الدرجة الثانية من سلم التسليم ، وفيه الخروج عن دعوى الفعل ، وتوحيد الفعل الخطوة الأولى على طريق اليقين كقوله سبحانه : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)) [الحجر : ٩٩] ، وتنبه الأشياخ المريدين بخاصة على أهمية توحيد الفعل لتهيئة المسلم لقبول نور اليقين الداخل من الشمال واليمين ، أي من جهة الأضداد.
١٥ ، ١٦ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦))
[الحجرات : ١٥ ، ١٦]
تؤكد الآيتان ما قلناه في تفسير الآيات السابقة عن ضرورة الخروج على الأنا وفعلها ، وذلك بالجهاد بالأموال والأنفس ، ولقد قال سبحانه في موضع آخر : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التّوبة : ١١١]. وعقب البسطامي على الآية قائلا : المؤمن ، ويعني من تحقق مقام الإيمان ، بلا نفس لأن الله اشترى منه نفسه ، والله القائل في الإنسان : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) [ق : ٢٥] ، أي لا يخرج عن ماله ، وقوله أيضا : (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)) [الفجر : ٢٠] ، وقوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)).
فالمال حجاب كثيف عن الله ، لأن قلب صاحب المال معلق بماله ، فهو به غني قوي ، وعليه اعتماده وتوكله ، ولهذا كان دخول الجمل في سم الخياط أسهل من دخول غني في ملكوت السموات ، ووصف صلىاللهعليهوسلم دخول عبد الرحمن بن عوف ، وكان غنيا ، بأنه يدخل الجنة حبوا ، علما أن عبد الرحمن بن عوف هو من هو ، ولكم شرى الله والإسلام ماله فالمال حجاب والغنى لا يرى الله إلا من كوة في أعلى بناء المال ، فالمال صرح الإنسان العالي ،