المشركين متسائلا : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ،) فإن فعل المنافقون شيئا فعلوه بإذن الله ، وفي هذا العودة إلى القدرة محركة الموجودات ، وتكون النتيجة أن الله بكل شيء خبير عليم لأنه أصله وجوهره ومحركه ، وهذه نقطة من نقاط الخلاف بين أهل السنة وغيرهم من المذاهب ، فأهل السنة جعلوا الأمر كله لله ، لا يخرج عليه شيء في السموات والأرض ، وهجم الإمام الغزالي هجومه المشهور في كتابه تهافت الفلاسفة على القائلين بقانون العلية ، أي صلة الأسباب بالمسببات ، والعلل بالمعلولات ، وقال إنه ما من دليل يثبت أن النار وحدها سبب الاحراق ، ولا أن الماء وحده سبب الإرواء ، فهذه أسباب لمسببات ظاهرية ، أما هو فلقد رأى كشفا الفاعل الحقيقي وهو الله.
١٢ ، ١٣ ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣))
[الفتح : ١٢ ، ١٣]
قوله : (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) نتيجة لوجود خاطر السوء نفسه ، فإذا ألهم خاطر السوء شيئا استمعه القلب وقبله ، ولما كان الله جبار الخواطر كان تزيين العمل من فعله تعالى ، وهو من باب القهر ، ويدخل في باب المكر ، وأخفت الآية الفاعل الحقيقي تؤدبا مع الله عزوجل.
١٤ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))
[الفتح : ١٤]
الآية كانت أيضا سبب الخلاف الذي وقع فيما بعد بين أهل السنة والمعتزلة حول المشيئة الإلهية ، فالمعتزلة قالوا بالحصر ، أي ألزموا الله تحقيق وعده ووعيده ، في حين انبرى إمام أهل السنة الغزالي للرد قائلا : لا يتوجب على الله شيء ، وختمت الآية بالقول إن الله كان غفورا رحيما ، وهذا يفيد معنى الكينونة الإلهية أولا وفعله السابق ثانيا ، وكلاهما وصف سبحانه بالمغفرة والرحمة كما قال سبحانه في الحديث القدسي ورحمتي سبقت غضبي.
١٥ ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))
[الفتح : ١٥]
لا يفقه المخلفون إلا قليلا ، والسبب الفرجة الضعيفة التي يطلون منها على عالم العقل ، فهؤلاء محصورون في زاوية الاسم نفسه الذي حكم عليهم ، وزين لهم سوء عملهم. والموقف يذكر بنظرية كانط القائلة إن الإنسان لا يمكنه النظر إلى العالم إلا من خلال منظار مقولة